صقر عليشي يصيد المعاني من أعالي التل

مدة القراءة 5 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي:
كثيرون من استعار من صقر عليشي عناوينه، أو بعض جملٍ من زوايا قصائده، غير أنّ قصيدة عليشي بقيت متفردة لا آباء لها ولا أبناء.
نتحدث هنا عن قصيدة صقر عليشي من خلال مجموعته الشعرية “معنىً على التلّ” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وقبل هذه المجموعة وبعدها، كان عليشي قد أصدر ما يُقارب  اثنتي عشرة مجموعةٍ شعرية عدا عن (الأعمال الشعرية) التي صدرت إلى الآن مرتين..

خاتمٌ مختلف
وكلها مهرها الشاعرُ بخاتمه الخاص الذي هو أسلوبه، والذي يمكن تحديد أعمدته بمجموعة ملامح، لعلّ أبرزها: حكائية مدهشة تذهب صوب أعالي الطفولة وأيام “الولدنة”، وتنهلُ من مخزونها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وهي هنا استطاعت كثيراً، ذلك أنها لم تذهب بتلك المناحي لأجل حنينِ ما، ولا مناكفة، وأنما أخذت من تلك السهوب البعيدة الحالة الرومانسية لتأتي القصيدة بأحلى مجازاتها بعد أن استعارت من بساتين الطفولة أجمل مشاهد الطبيعية، ولتكون تلك المشاهد خلفية مصورة لقول الشعر.. أو الفضاء الخلفي للقصيدة..
وهنا سنلتقي بشاعرٍ أو “سترى هنا قلباً تعرّض للجمال وهو فتىً” والذي كان الباعث الأول للقول الشعري .
” مررتُ هنا في النشيد
على لغتي
مسحتُ بلطفٍ خدودَ العبارة،
ربتُّ أعماقها النائيات،
تأكدتُّ أن جميع دروب الجمال
تؤدي إلى القمة،
و.. من ثمّ عدتُ إلى غيمتي ”
بعد سفوح الطفولة البعيدة وسهوبها التي استعار الشاعر منها خلفية المشهد للقصيدة، فإنه يذهب بقوله الشعري إلى الأنسنة، فكل ما حول الشاعر يمكنه أن يتحدث ويفيض بمكنونه.. وهنا أيضاً لم تكن غاية صقر عليشي أن يُصبغ الصفات الإنسانية على الأشياء والحيوانات والأشجار وغيرها مما يُحيط به من مكونات الطبيعة، وإنما كما يقول هو نفسه: “أنا هنا أتحدث بلسانها للاختلاف، والنكهة الأخرى بقرار جمالي بخلاف استعماله عند ابن المقفع مثلاً، وهذا أمر ليس سهلاً.. الأنسنة هنا، أو أن هذا الأسلوب يأخذ المتلقي إلى ما هو غير مألوف، للصدمة، وللدهشة، وهذه واحدة من أكثر ما يُعمّق التواصل بين القصيدة والقارئ ..

عن الأنسنة
“هنا سيدهشنا ” المستقيم” بأمانيه، وكذلك: الدائرة، والإبرة في هذه النجوى الطويلة، والبصلة، والنبيذ، والنمر، والبقرة، والغيمة، و.. قد جعل كل هؤلاء يتبارون في فن القول:
” قالت الدائرة
درتُ على أكمل وجهٍ
دعك مما قاله بالسوء عني
مستطيل
مركزي نقطتهُ ثابتةٌ
ليس لو مالت به الريح،
يميل
أنا لا أول
لا آخر لي
أنا في ذاتي بذاتي، مستمرة
حينما
أحببت أن أظهر
في شكلٍ جميل
صرت للمرأة سُرّه ”
تلك المشهدية التي – كما قلنا يستعيرها الشاعر من بيادر الطفولة – وهذه الأنسنة لكل ما يُحيط به من جمادات وأشياء وطير، أو حيوان، يرويها الشاعرُ بمنتهى السخرية، وهنا أيضاً السخرية التي ستنزاح من كلّ قواميس القدح والهجاء والتهكم، وحتى الهزء، وتبتعد عنها، و.. ذلك لتقترب أكثر  فأكثر صوب الهزل واللعب، وإذا كانت لا توجد كوميديا من دون ضحية، فإنّ الفن لم يظهر أبداً – على ما يرى الكثير من النقاد – موهبة السخرية في شيء، أفضل من هذه السخرية من نفسه، ذلك إن إرغامه على تحطيم نفسه، إنما هو في حقيقة الأمر ما تُبقي على نفسه فناً، وحسب الناقد والشاعر الألماني (شليفل)، فإنّ السخرية هي الدرجة الجمالية القصوى، ولهذه أسبابها التي تتعلق بالمعنى والمغزى الجديد للفن.

عن السخرية
و.. في سخريته، فإنّ صقر عليشي عندما ينتقد الإنسان، فإنه فقط يُنقذه من جدية الحياة، كما أنه يوقظ فيه عمر الصبا المفاجئ، ومرة ثانية  ” يعود مزمار بان السحري الذي كان يُرقّص الماعز على أطراف الغابة ليصبح رمزاً للفن .”
يجمع صقر عليشي كل ذلك بأسلوب الحكاية، فقصيدة هذا الشاعر لا تخلو من “حدث” مصراً بأقصى ما عنده على “الحكائية”، وبذلك استطاع  أن يبني” من كلمات عدة/ في سطرٍ.. أو سطرين/ فضاءً رحباً ” تلك الحكائية التي أتاحت له كل هذه الرحابة، ليأتي الشعر لديه – كما قال كيتس – طبيعياً، تماماً كما تنمو الأوراق على الأشجار، لأنه إن لم يأتِ كذلك، فخيرٌ له ألّا يأتي. شعرٌ هو نثرٌ مجنون، أو هو كما يذكر (شيللي): الشعر هو سجل لأروع الدقائق وأسعدها في أسعد العقول وأروعها.

عن الحكائية
تلك كانت بعض ملامح هذا الشاعر – وكانت عدّته أيضاَ – الذي قدّم قصيدته من خلالها بمختلف الأشكال والقوالب الشعرية: الموزون، التفعيلة – ووجهة نظري أنه من أهم الشعراء الذين كتبوا قصيدة التفعيلة – النثر، وحتى ما يِشبه الموشح. كلّ ذلك يؤكد حرفية هذا الشاعر، وإن بقي طول الوقت يُبعد قصيدته من صياغة الحرفية، بل قدّم تلك القصيدة البرية التي تغوينا وتراودنا بلباس البساطة.. باختصار نقرأ في تجربة صقر عليشي الشعرية، تجربة شاعر تعرّض لـ”ضربة ” الجمال منذ سنيه الأولى.
…………
الكتاب: معنى على التل
الكاتب: صقر عليشي
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب

Leave a Comment
آخر الأخبار