عن بورتريه الغياب.. علي الشيخ وتجليات الطفولة المعلقة في الفراغ

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية- علي الرّاعي
” عَلَى الصَّخْرَةِ بَدَأَتِ الحِكَايَةُ.
الجَسَدُ مُعَتَّقاً بِالمِلْحِ، مِنْ هُنَاكَ جِئْتُ،
مِنَ المِينَاءِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ أَطْرَافِ القَرْيَةِ،
كُنَّا نَتَهَيَّأُ لِلغَوْصِ وَنَتْرُكُ مَنَاشِفَنَا تَجِفُّ عَلَى الصَّخْرِ،
يَتَشَبَّثُ بِهَا المِلْحُ كَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرَّحِيلَ.”
بهذه الحميمية يُقدّم الفنان التشكيلي السوري علي الشيخ معرضه الجديد في (جاليري آزاد)، بالزمالك– القاهرة.. والذي اختار له عنواناً لافتاً (على الصخرة)، تلك الصخرة التي يشرح حيثياتها في التقديم الذي كان أقرب إلى بوحٍ شعري، يُقدّم من خلاله الشيخ رحلته الفنية وتأثره بالمناخات البحرية من زرقة وملح وموج وضباب وصخرة شاهدة على الشاطئ..
وفي مفارقة مشغولة من الشيخ يختار طفلة لتروي لنا حكاية الصخرة البحرية، هذه الطفلة التي سينوّع في تكاوينها وألوانها في تشكيلات فنية تروي لنا أكثر من حكاية بحرية، وأكثر من قصة ملح لاتزال عالقة في المناشف..
أقول مفارقة بين برءاة الطفولة وقسوة الصخر، مفارقة تفتحُ المدى واسعاً صوب فضاءات واسعة من التأويل والتخييل..
في عالم علي الشيخ، لا نواجه الطفولة كما نعرفها، بل نواجهها وقد تجرّدت من براءتها الساذجة، لتصبح رمزاً لوجودٍ معلق بين الحلم والعدم.
فالوجوه التي يرسمها ليست وجوهاً محددة، بل أطياف إنسانية بلا هوية، تقفُ في المسافة الفاصلة بين الكائن وظله، بين الصوت والصمت.

مدخل إلى العالم الرمادي

من النظرة الأولى للوحات المعرض، ندرك أننا أمام تجربة تشكيلية تُعيد تعريف الجمال بوصفه جرحاً شفافاً، والبراءة بوصفها فقداً مبكراً للمعنى.. لوحات الشيخ -في هذه المجموعة تحديداً- تقيم حواراً بين السكينة الظاهرية والقلق الداخلي.
فكلُّ لونٍ، وكل انحناءة وجه، وكلُّ مساحةٍ خالية، تنبضُ باهتزازٍ إنساني يتجاوز حدود التصوير الواقعي إلى تعبير وجودي عن هشاشة الكائن المعاصر.
هنا تبدو شخصيات علي الشيخ محصورة في فضاءٍ مسطح، يكاد يخلو من العمق المنظوري.
في إحدى اللوحات، نرى وجهاً ضخماً يحتلُ المساحة كلها تقريباً، وكأنّ الفنان يضعنا داخل نظرة الشخصية نفسها.. الرأس يعلو الجسد، والوجه أشبه بكوكبٍ مطلي بالرماد، تتخلله مساحاتٌ من الأصفر الفاتح والرمادي والأبيض. فيما العينان دائريتان، غائرتان، تبحران في فراغٍ بارد، والفمُ مغلقٌ على سرٍّ أو خوفٍ ما.
هذه التكوينات تختصر ما يمكن تسميته بـ”بورتريه الغياب”- الوجه هنا ليس تعريفاً للشخص، بل إعلان عن اختفائه.
وفي لوحةٍ أخرى، تتحوّل الشخصية إلى كائنٍ بحريٍّ أسطوريّ: فتاة تجلس على صخرة قرب البحر، وإلى جانبها مراكب صغيرة عائمة، مدينة رمادية في الخلفية، وبحرٌ يمتدُّ حتى الأفق الأزرق الفاتح.. هنا يتوسّع التكوين: من وجهٍ في مساحة مغلقة إلى جسدٍ في فضاء مفتوح، لكن الانعزال لا يتغير.. الجسد محاصر في وحدته، مُحاطٌ بالماء، بالبرد، بالمدن التي تبدو بلا حياة. يُكمل علي الشيخ في التقديم:
“اليدان مقيدتان بخيطٍ أحمر
ينتهي عند القلب — في تفصيلٍ رمزيٍّ دقيق
يحوّل القلب إلى جرحٍ مرئي،
إلى مركز للمعاناة.”
وفي لوحةٍ ثالثة، يُقدّم الطفلة الواقفة على الصخرة، ملفوفةً برداءٍ أزرق بنقوشٍ بيضاء، تنظر مباشرة نحو المشاهد.. هنا يقفُ الكائن بين الضعف والصلابة، بين الانكشاف والستر، بين البراءة والخوف.. فالقدمان عاريتان تقريباً، ملامسةٌ للحجر، في حين أن الوجه باهت، خجول، صامت. كأن الفنان يقول: “هذه الطفلة آخر من تبقّى في عالمٍ بلا دفء”.

اقتصاد التعبير وبلاغة الصمت

لون علي الشيخ هو لغة صمتٍ كثيفة، لا تصرخ لكنها تملأ المساحة بالحنين. يُركز في لوحاته على تدرجات الأزرق والرمادي والأبيض، وهي ألوان البرد والعزلة والانطفاء.
في المقابل، تظهر اللمسات الدافئة (البرتقالي، الوردي، الأحمر الخافت) بشكلٍ محدود — وغالباً في مواضع ذات معنى نفسي: الفم، الخدّان، موضع القلب.
هذا التوازن بين البرودة والدفء يخلق توتراً بصرياً لا يهدأ. الرمادي والأزرق يشكّلان خلفية للغربة، بينما الأحمر يطلّ كندبةٍ أو كصرخة داخلية. في اللوحة الثانية مثلاً، اللون الأحمر في الخيط الممتدّ من اليد إلى الصدر ليس زينة، بل إعلانٌ عن خيط الحياة، عما تبقّى من نبضٍ في عالمٍ بلا ضجيج.
“قَدَمَايَ عَلَى الصَّخْرِ الدَّافِئِ،
أَشْعُرُ بِخُشُونَتِهِ تُهَمْسُ لِي،
تَقُولُ إِنِّي مِنْ هَذَا المَكَانِ،
مِنْ صَخْرٍ عَلَّمَنِي التَّوَازُنَ،
وَمِنْ بَحْرٍ تَرَكَ فِيَّ رَائِحَتَهُ،
وَفِي الذَّاكِرَةِ صَوْتَهُ الَّذِي لَا يَهْدَأُ.”
من الناحية التقنية، يعتمد الشيخ على طبقاتٍ شفافة من اللون، تسمح بظهور ما تحتها.
هذا الأسلوب يمنحُ السطح ملمساً متآكلاً، كأن الزمن نفسه يمرّ فوق اللوحة ويمحو ملامحها. فلا نجد خطوطاً فاصلة أو ألواناً صافية؛ وإنما كلُّ شيءٍ ذائب في الآخر، كما تذوب الذكريات في الذاكرة.
إنها لوحات تذوب ببطء، وتُشبه في بهتانها صوراً قديمة عُثر عليها بعد فيضانٍ أو حريق.
تحملُّ كل الشخصيات في هذه اللوحات – أظنها شخصية واحدة بادوارٍ مختلفة – الملامح نفسها تقريباً، وكأنها وجوه متكررة لذاتٍ واحدة. هذا التكرار ليس مصادفة، بل موقف فلسفي: في عالمٍ يُعيد إنتاج المعاناة، ويصبحُ الفردُ صورة مكررة للوجع نفسه، مهما اختلفت ملامحه. فالهوية هنا ليست شخصية، بل إنسانية مطلقة، مغسولة بالرماد.
“أَحْمِلُ البَحْرَ فِي حَقِيبَتِي:
الوُجُوهَ، المَنَاشِفَ، المِينَاءَ، البُيُوتَ عَلَى التَّلِّ،
كُلُّهَا لَحَظَاتٌ تَتَنَفَّسُ انْتِظَارًا،
تَتَنَاثَرُ بَيْنَ المِلْحِ وَالرِّيحِ،
بَيْنَ خَطَوَاتِنَا وَالأُفُقِ.”
المرأة، أو الطفلة الأنثى، هي محور الوجود في أعمال علي الشيخ.
لكنها ليست “أنثى” بمعناها الجسدي أو الاجتماعي، بل رمز للروح الهشّة التي تتلقى الألم دون أن تدافع. هي الأنثى-الطفلة التي تُمثل البدايات، لكنها محاصرة بانكسارٍ مبكر، تقف في مواجهة كونٍ باردٍ، بلا حضنٍ أو دفء. الأنوثة في لوحات الشيخ هي وجدان الضعف النبيل، الوجه الذي لم يتعلم القسوة بعد.
في اللوحة الثانية مثلاً، البحر هو اللاوعي، والمراكب الصغيرة رموز للأحلام المبعثرة. فيما المدينة الرمادية في الخلفية ليست مدينة واقعية، بل ذاكرة جماعية، تُمثل الماضي الذي غادرته الشخصية ولم تعد قادرة على العودة إليه. الفضاء عند الشيخ ليس امتداداً، بل جدار من الصمت يبتلع الكائنات.

الطفولة كحالة وجودية

ليست الطفولة عند علي الشيخ مشبعة بالقلق. العيون الواسعة لا تعبّر عن فضول الحياة، بل عن فزعٍ مبكّر من الواقع. ويبدو أن الشيخ يستخدم الطفولة كمرآة للإنسان في لحظته العارية — قبل أن يتقن الكذب أو يكتسب الأقنعة. لهذا تأتي الوجوه صافية، لكنها خائفة؛ جميلة، لكنها متعبة. الطفولة هنا ليست بداية الحياة، بل بداية الوعي بالوجع.
في هذه اللوحات، نلمسُ نزعةً فلسفية عميقة نحو العدمية الهادئة. فلا شيء مكتملاً، لا الألوان ولا الملامح ولا حتى المشهد نفسه. كل شيء هنا يبدو وكأنه في حالة مسوّدة دائمة، غير منتهٍ، كما لو أن الفنان أراد أن يقول: “نحن مشاريع بشرية لم تكتمل”. لكن وسط هذا البهتان، يظل هناك خيط من الحياة — صغير، دافئ، عنيد.
في مواضع الخدود، أو الفم، أو تلك النقطة الحمراء في صدر الفتاة، يظهر اللون الحيّ كنداء داخلي: “ما زلتُ هنا، رغم البرد، رغم الغياب.” هذه المفارقة بين الموت والحياة، بين التلاشي والبقاء، تُشكّل جوهر تجربة علي الشيخ. فهو لا يرسم الألم ليحزننا، بل ليوقظ فينا القدرة على الإحساس من جديد.

التقنية والبنية التعبيرية

من الناحية التقنية، يستخدم الشيخ ضربات فرشاة واسعة، لكنها غير حادة، وكأنها تمسح لا ترسم. فالملمس غير منتظم، يحمل أثر اليد، ما يخلق نوعاً من التقشّف التعبيري يشبه “التأمل في الخسارة”. فيقلّص التفاصيل ليمنح الفكرة كثافة، ويقترب من الحد الأدنى للغة البصرية دون أن يسقط في التجريد الخالص.
الوجوه الكبيرة، العيون البسيطة، الأجساد القصيرة، كلها تُحيل إلى عالمٍ طفوليّ، لكنه عالمٌ لا يُضحك ولا يُطمئن. إنه “الطفل الداخلي” وقد بلغ مرحلة الإدراك الموجع. وهنا يكمن سرّ الجاذبية: مزيجٌ من السذاجة البصرية وعمق الإحساس الفلسفي.
لوحات علي الشيخ — في هذا المعرض — تطرح على المشاهد سؤالاً مزدوجاً: هل ننظر إلى الطفولة فينا أم إلى الإنسان بعد أن فقدها؟ وهل هذا الوجه الساكن هو نحن، أم ظلّنا بعد العاصفة؟ الفنان لا يقدّم أجوبة، بل يفتح مساحاتٍ من الصمت لنتأمل نحن أجوبتنا. حيث يستخدم اللون كذاكرة، والخط كجرح، والمساحة كزمنٍ معلّق. بهذا، تتحول اللوحة إلى كائنٍ يتنفّس الحنين والخوف في آنٍ معاً.
في النهاية، يمكن القول إن علي الشيخ يشتغل على منطقة نادرة في الفن العربي المعاصر: منطقة “الطفولة الرمادية”، حيث تتجاور البراءة والعدم، الجمال والوجع، الإنسان وظله. في هذه المنطقة، لا يبحث الفنان عن الزينة أو البهاء، بل عن الصدق الإنساني، عن ذلك الشعور الخافت الذي يربطنا جميعاً: أننا هشّون، لكننا ما زلنا نحلم.
“وَكُلُّ لَوْحَةٍ أَرْسُمُهَا؛
مُحَاوَلَةٌ لِلَحْظَةٍ لَمْ تَنْتَهِ،
كَأَنَّمَا المَوْجُ لَمْ يُغادرْ الصَّخْرَةِ يَوْماً.”

Leave a Comment
آخر الأخبار