في يومها العالمي… الموسيقا لغة الكون الأولى وأسرار الحضارات

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية– حنان علي:‏

تعال لنُصغي للغة وُلدت قبل اللغة، لدهشة الكون الأولى، هيّا نلتفتُ لنقرة ‏حجر فوق حجر، أو لشجنِ قصبةٍ على ضفاف نهرٍ تائه. دعنا نلتفتُ لأول ‏من تطلع إلى السماء، ولمّا ارتعش فؤاده غنى.‏

الموسيقا لسانُ هيّاب ضل دربه، أو لعلها خطاب عاشق ما أشبعته ‏المفردات. ليست النغمات اختراعاً أو اكتشافاً بل لغزٌ أراد كشف خباياه ‏عبر عظمة نسر مثقوبة أو قصبة جافة أو وجه طبولٍ إفريقية حول نيرانٍ ‏مقدسة، أو حتى سوناتات بيتهوفن فوق خشبات المسارح العالمية. هناك ‏حيث وشت الموسيقا بأسرارها — ترف كانت أم صوت للحياة لا يهم .. ‏تعال لنغمض على الرسالة السرية لهذا العالم.‏

مهد الموسيقا

مملكة أوغاريت السورية مهد التدوين الموسيقي في العالم، هناك اكتُشفت ‏أقدم القطع الموسيقية المدونة التي تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، ‏متقدمة بذلك على سلم فيثاغورس بألف سنة. اكتُشفت هذه التدوينات عام ‌‏1948، وتضمنت 36 أغنية أطلق عليها اسم “الأغاني الحرانية”، من ‏بينها ترنيمة “نيغال” آلهة القمر الحزين، والتي تعكس روح الموسيقا ‏الأوغاريتية. تم تدوين هذه الموسيقا حوالي عام 1400 قبل الميلاد على ‏ألواح طينية بالخط المسماري.‏

سأغتسل، وأتطهر من أدران الخطيئة. ‏

لم تعد الذنوب تظللني، ولا حاجة لتغيير مساري

قلبي الآن مطمئن، بعدما أتممت نذري. ‏

ستكرمني سيدتي، وتجعلني قريباً من قلبها

فنذري يكسو زلاتي، ويحل زيت السمسم بديلاً مني.‏

‏ في حضرتك، اسمحي لي بالاقتراب، ‏

فأنتِ تهبين الخصوبة للعاقر، وترفعين سموّ الحبوب ‏

إنها الزوجة التي ستحمل الأبناء إلى أبيهم،

‏ تلك التي لم ترزق بأطفال بعد.‏

تشير الأدلة الأثرية والنصوص المسمارية إلى أهمية الموسيقا في ‏المجتمع السومري القديم. فقد كان الموسيقيون يحظون بمكانة اجتماعية ‏مرموقة، كما يتضح من قيثارة أور الذهبية وغيرها من الآلات الموسيقية ‏المكتشفة في المقابر الملكية. كذلك تكشف الألواح المسمارية والتمثيلات ‏المصورة عن استخدامات الموسيقا في الطقوس الدينية والترفيه، ما يؤكد ‏دورها الحيوي في حياة السومريين. ‏

ما فتئت الحضارة السومرية السبّاقة في إبداع أغنيات الحب وأشعاره، ‏وهو ما يثبته الفصل الثالث والعشرون من كتاب “ألواح سومر”. كما ‏وجدت أغنية حب أخرى، مكتوبة على ألواح تخص الحضارة السومرية.‏

أيها العريس

جمالك باهر، حلو، كالشهد، ‏

لقد أسرت قلبي ‏

وها أنا أقف بحضرتك ‏

خائفة، وجلة، مرتعشة،

‏ فخذني إليك.‏

بدورها الموسيقا في مصر القديمة لعبت دوراً مهماً في الحياة الدينية ‏والاحتفالية، واستخدمت في الطقوس الروحانية والمناسبات الملكية ‏والاجتماعية. ومن أبرز الآلات الموسيقية المستخدمة كانت آلة الهارب ‏أو القيثارة، والتي ظهرت في النقوش والرسومات داخل المعابد والمقابر. ‏أما السمسمية، فهي آلة وترية شهيرة في التراث الشعبي المصري، ‏وخاصة في مدن القناة، وارتبطت بالمقاومة الشعبية.‏

في الصين القديمة، اعتقد الحكماء أن اختلال نغمة واحدة في اللحن قد ‏يعني خللاً في الكون. ولطالما اعتبرت الموسيقا الصينية علماً متداخلاً مع ‏الفلك والطب وكأنها خريطة داخلية للروح.‏

حكايات غريبة

في العصور الوسطى، اعتقد العلماء الموسيقيون أن ثمة فاصلاً صوتياً ‏مُحَرَّماً يمثل تجسيداً للشر في الفن الموسيقي. كان هذا الفاصل المعروف ‏باسم “الثالثة الصغرى” ينشأ عند دمج ثلاث نغمات متتالية، فينتج تنافراً ‏صوتياً قوياً. في ذلك الزمن، اعتاد السامعون على الألحان المتناغمة ‏والنقية، فكان هذا الفاصل الصوتي الحاد بمثابة صدمة لأذن المستمع. ‏لذلك أطلقوا عليه “الشيطان في الموسيقا” ومنعوه تماماً من الترانيم ‏الدينية.‏

وبالانتقال إلى قصر فرساي، عاش جان باتيست لولي، الملحن الإيطالي ‏الذي أصبح أشهر ملحن في بلاط الملك لويس الرابع عشر الملك العاشق ‏للفنون وإغداق الأموال على من يرضيه. لولي بذكائه، استغل الفرصة ‏وأصبح مديراً للأكاديمية الملكية للموسيقا، ليمُنح سلطةً مطلقة على ‏الأوبرا في فرنسا. ويقدم عروضاً تُفتتح بتمجيد الملك. لم يكن لولي ‏ليتوانى عن ضرب الموسيقيين مهيناً إياهم إذا ما أخطئوا، وفي ليلة ‏احتفال بشفاء الملك، أصيب لولي بالتهاب بعد أن ضرب قدمه بعصاه ‏الثقيلة ولشدة غروره رفض العلاج حتى وفاته تاركاً وراءه موسيقا ‏عظيمة وسطوة ما نافسه فيها أحد.‏

أما العازف الإيطالي نيكولو باغانيني المولود عام 1782 في جنوا، فقد ‏برز كأحد أعظم عازفي الكمان في التاريخ. منذ صغره، أظهر موهبة ‏استثنائية، ذلك حين ألف أول مقطوعاته في سن الثامنة. ومع نجاحه، ‏انتشرت شائعات بأنه باع روحه للشيطان الذي علمه العزف. وعززت ‏من هذه الأساطير مظهره الغريب وسلوكياته المثيرة وإدمانه على ‏الكحول. وعندما توفي عام 1840، رفضت الكنيسة دفنه بسبب سمعته ‏السيئة، ما أدى إلى وضع جثته في قبو. قبل دفنه أخيراً في حديقة منزل ‏أحد الباباوات.‏

غرابة ما مرت مرور الكرام عن العظيم شوبان كلما انغمس في تأليف ‏إحدى سوناتاته. إذ بينما كانت أنامله تداعب مفاتيح البيانو، شرعت رؤى ‏غريبة تراوده، مخلوقات غريبة بدت وكأنها تخرج من البيانو وتتجسد ‏أمامه في مشهد حي. لم يتمالك شوبان نفسه، فانتفض من مكانه وغادر ‏الغرفة مسرعاً، باحثاً عن الراحة واستعادة توازنه. تذكر هذه الحادثة ‏كدليل على معاناة شوبان مع الهلوسة.‏

في يومها العالمي تعال لنتوه معاً، في ألبومات الفينيل القديمة، أو بين ‏أشرطة الكاسيت لعل الخدوش بين الأغاني ترجعنا لأمسيات الزمن ‏الجميل. دعنا نقتحم حجرة صغيرة في حارة شعبية، لشاب يعزف على ‏كمان جده، محاولاً تشكيل العالم من وترٍ واحد. لن نحتاج لأي ترجمة ‏ولن نحتفل بأنغامٍ مرتبة، بل بذاكرةٍ حيّة، بحضاراتٍ توارت داخل ‏الإيقاع، وبقلوبٍ خفقت على وتر الألحان.‏

أرواح تساءلت يوماً: “ماذا لو صنعنا للكون لحناً؟”.‏

Leave a Comment
آخر الأخبار