الحرية – رنا بغدان:
يعدّ كتاب “البخلاء” للجاحظ موسوعة علمية أدبية اجتماعية نفسية جغرافية تاريخية ويُمثّل نموذجاً فريداً للأدب الساخر والنقد الاجتماعي لاحتوائه على الكثير من أسماء مشاهير العصر وتضمينه العديد من الأحاديث النبوية والقصائد الشعرية والنوادر والحكايات الطريفة التي تتناول صفة البخل وتصوّرها من خلال شخصيات مختلفة واقعية وخيالية مع التركيز على البخل باعتباره طريقة تفكير وحياة, وقد ترك البخلاء أثراً عميقاً في الأدب العربي، وألهم العديد من الكتّاب لتأليف أعمال مشابهة, كما ساهم في نشر الوعي بأخلاقيات الكرم والجود ونبذ صفة البخل ويعد مصدراً تاريخياً هاماً لفهم الحياة الاجتماعية في زمن الجاحظ.
ويقدّم الكاتب في “بخلائه” الذي ألفه في القرن الثالث الهجري، مادته الأدبية بأسلوب مميز يمزج بين السرد القصصي والفلسفة الاجتماعية بطريقة هزلية وساخرة، ما يجعلها مادة للقراءة الممتعة والمفيدة في آن واحد, حيث يقدم صورة فنية وواقعية للبخل نابضة بالحياة لمجتمع عصره, ويُظهر براعته في الكتابة والوصف, فوثّق “أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ” (155هـ – 255هـ)، في قصصه الألفاظ العامية المتداولة في فترة كتابته ليقدّم من خلال الحوارات التي أوردها , دون تجريح ودون أن يُحرّض القارئ على كراهيتهم بل يُظهرهم في إطار فكاهيّ يدعو إلى التأمل, أدقّ التفاصيل عن نفوس البخلاء وحركاتهم ونزواتهم النفسية وخفايا منازلهم وأحاديثهم وأحوالهم وطبائعهم وسلوكهم جميعاً وحيلهم الماكرة في سبيل توفير المال ويعرض طريقة اقتصادهم واستخدامهم للمال ومحاربتهم الإسراف وحججهم الفلسفية لتبرير بخلهم, خصوصاً في بلدة “مرو” عاصمة “خراسان”, وذلك من خلال حكايات طريفة ونوادر مُضحكة وشخصيات غريبة بعضها من خياله مثل أبي الحارث جميز والهيثم بن مطهر.. وشخصيات نموذجية أخرى للبخلاء مثل أبي نواس، وأبي جعفر الطرسوسي، وأبي الشمقمق.. ولكلّ شخصية حكاياتها المُضحكة ونوادرها المُسلية.. مثل قصة “طفل مرو البخيل” الذي تدرّب منذ صغره على رفض العطاء، وقصة “البخيل بالبخور” الذي يتحايل ليحافظ على رائحة الطيب أطول وقت ممكن، وقصة “ديكة مرو البخيلة” التي لا تكتفي بعدم إطعام إناثها بل تسلبها الحبّ من مناقيرها، هذه القصص لا تقتصر على السخرية بل تحمل في طياتها رسائل اجتماعية ونقداً للواقع بأسلوب غير مباشر.
ويتناول الكتاب الذي مزج فيه الجاحظ بين النثر والشعر نصوصاً أدبية موجزة وشائعة في العصر الإسلامي، حيث ملامح الشعر والخطابة وما يرافق ذلك من سجع وبلاغة وتورية وحسن صياغة وفرادة في البيان والتصوير, ويتميز باحتوائه على العديد من أسماء الأعلام والمشاهير والمغمورين وكذلك أسماء البلدان والأماكن وصفات أهلها والعديد من أبيات الشعر النادرة والمفيدة بموضوعها والأحاديث والآثار, من خلال توظّيفه الـسخرية وموضوعاتها وفق بنيتها السردية من حيث الزمان والمكان والشخصيات مستخدماً أجناساً أدبية متنوعة كالقصة والنادرة والرسالة بأسلوب امتاز بالسلاسة والطلاقة مستخدماً فيه مختلف العديد من الأساليب البلاغية كالمُقابلة والمُماثلة والسخرية.. ما جعله أهمّ الأعمال الأدبية العربية وأكثرها شهرة لاعتباره دراسةً متكاملة تمتزج فيها علوم النفس والاقتصاد والاجتماع بالأدب والفكاهة.
ونورد من “بخلائه” قصة أهل خراسان والمصباح:
يحكي الجاحظ أن جماعة من البخلاء في خراسان اجتمعوا ليسكنوا في بيت واحد، وقرروا أن يعيشوا حياة مقتصدة للغاية. وذات ليلة، جلسوا في الظلام طويلاً لأنهم لا يريدون إنفاق المال على إشعال مصباح, وبعد مناقشات طويلة، اتفقوا أخيراً على شراء مصباح واحد، شرط أن يساهم كل واحد منهم بجزء من ثمن الزيت. غير أن أحدهم رفض أن يدفع، وأصرّ على أن يستفيد من ضوء المصباح دون أن يشارك في التكاليف.. فكانوا عندما يشعلون المصباح يربطون عينيه بقطعة قماش حتى لا يرى شيئًا من الضوء, ثم إذا عمّ الظلام وجاء وقت النوم أطفؤوا المصباح وفكّوا الرباط عن عينيه.