لقاء الشرع– بوتين.. فاصل تاريخي على مسار المصالح الوطنية العليا لسوريا

مدة القراءة 9 دقيقة/دقائق

الحرية – مها سلطان:

إلى حد ما كانت زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى روسيا مفاجئة، لكن إذا ما أخذنا بالاعتبار إلحاح القضايا العالقة فإن عنصر المفاجأة يختفي. يمكن القول إنها زيارة الضرورة التي لم تعد تستدعي التأجيل، أو لنقل إن الوقت حان لبحث كل الملفات بصورة مباشرة «وجهاً لوجه» وإعادة «تعريف طبيعة العلاقة» بين سوريا وروسيا، من خلال إعادة تقييم الاتفاقيات السابقة، وعلى رأسها القاعدتان الروسيتان في اللاذقية وطرطوس.
ومع استمرار التحولات الكبرى في المنطقة، وآخرها اتفاق غزة، فإن تنظيم العلاقة مع روسيا بات ضرورياً، وسوريا بالعموم هي في قلب هذه التحولات من جهة، وفي قلب التوازنات الجديدة التي ستقود إليها هذه التحولات.. من جهة ثانية.
إنه عصر جديد في المنطقة. روسيا تسعى لتكون محوراً أساسياً فيه، بل هي تلح في سعيها، ومن هنا كان إلحاحها في تكثيف التواصل مع سوريا والرئيس الشرع، وتعزيز جهودها في سبيل كسب سوريا الجديدة.
سوريا بالمقابل ترى أن لها مصلحة ومنفعة في علاقات «هادئة» مع روسيا، كما يمكن الاستثمار في سعي روسيا لتبقى جزءاً محورياً في المنطقة، في سبيل أن تعزيز مسار المصالح والمنافع المكتسبة.

– زيارة في وقتها

كان يُفترض أن يكون لقاء الرئيس الشرع وبوتين ضمن فعاليات القمة الروسية -العربية التي كانت مقررة اليوم الأربعاء، لكنها تأجلت بعد توقيع اتفاق غزة، حيث إن قادة المنطقة والعالم منشغلون به وبمراحل تنفيذه، لذلك فرض التأجيل نفسه على القيادة الروسية التي أعلنت أن القمة ستعقد خلال شهر تشرين الثاني المقبل.

روسيا كانت تعوّل بشكل كبير على الزيارة وكانت حريصة على ألا تكون مرتبطة بالقمة الروسية- العربية، فكان اللقاء بين الشرع وبوتين على مستوى القمة وخارج أي ارتباطات إقليمية او دولية

وعليه، كان هناك توقع بأن اللقاء بين الرئيسين الشرع وبوتين تم تأجيله ارتباطاً بتأجيل القمة، لكن روسيا- كما يبدو- كانت تعوّل بشكل أساسي على هذا اللقاء، ولذلك تم فك الارتباط ليكون اللقاء على مستوى القمة، منفرداً، خارج أي ارتباطات إقليمية أو دولية.
ويمكن القول من مجمل التصريحات التي سبقت الزيارة، والتصريحات خلالها من قبل الرئيسين الشرع وبوتين.. يمكن القول إنها زيارة مبشرة. لقد سعى الرئيس بوتين لتضمين تصريحاته أعلى قدر من الإيجابية «وخطب الود» خلال لقائه الرئيس الشرع، وكان حريصاً على توضيح طبيعة «التحالف» القائم بين روسيا وسوريا منذ عقود.
تبرّأ بوتين من صفة «المصالح» التي وسمت ذلك التحالف، قائلاً: لم تكن لدينا في روسيا أي علاقات مع سوريا مرتبطة بظروفنا السياسية أو مصالحنا الخاصة. على مدى هذه العقود، كان هدفنا دائماً هو مصلحة الشعب السوري. روسيا استرشدت دائماً بمصالح الشعب السوري.
وأشار بوتين إلى أن «روسيا وسوريا تربطهما علاقة مميزة اتسمت دائماً بطابع وديّ استثنائي»، معرباً عن استعداد «موسكو لإجراء مشاورات منتظمة مع دمشق عبر وزارة الخارجية».

– لغة واضحة ودقيقة

وبغض النظر عن تصريحات بوتين والجدل حول صحتها وهدفها، فإن الرئيس الشرع كان حريصاً بدوره على توضيح هدف زيارته لروسيا، مستخدماً لغة واضحة ودقيقة، ومحددة بصورة مباشرة نحو الهدف الأساسي.
بل إن الرئيس الشرع وجه – ضمن ذلك- رسائل أخرى متعلقة بالقضايا المرتبطة، سواء بسوريا وروسيا معاً، أو بكل منهما على حدة. ولأن الزيارة تتعلق أساساً بـ«إعادة تعريف العلاقة»، فإن الرئيس الشرع كان صريحاً في تطرقه لمجمل القضايا، قائلاً: نحترم كل ما مضى من اتفاقيات مع روسيا، ونحاول أن نعيد ونعرّف بشكل جديد طبيعة هذه العلاقة معها، على أن يكون هناك استقلال لسيادة سوريا وسلامة ووحدة أراضيها واستقرارها الأمني المرتبط بالاستقرار الإقليمي والعالمي.

بوتين سعى لتضمين تصريحاته أعلى قدر من الإيجابية و«خطب الود» متبرئاً من صفة «المصالح» التي طبعت العلاقات مع النظام السابق

وأضاف الرئيس الشرع: سوريا الجديدة تعيد ربط العلاقات السياسية الاستراتيجية مع جميع الدول الإقليمية والعالمية على رأسها روسيا الاتحادية، مشيراً إلى أن «جزءاً من الغذاء السوري معتمد على الإنتاج الروسي وأن كثيراً من محطات الطاقة في سوريا تعتمد على خبرات موسكو».
وأوضح الرئيس الشرع أن «هناك علاقات تاريخية طويلة تربط ما بين سوريا وروسيا وعلاقات ثنائية ومصالح مشتركة» مؤكداً أن «كثيراً من العلاقات الاستراتيجية والسياسية سواء إقليمية ودولية مرتبطة مع روسيا».

-الاقتصاد حاضر

هذا يعني أن الملفات الاقتصادية كانت حاضرة أيضاً على طاولة البحث، إلى جانب الملفين العسكري والسياسي. بل يمكن القول إن التعاون الاقتصادي – كما يبدو- كان حاضراً بقوة، فروسيا تستطيع أن تكون جزءاً من مساهمة المجتمع الدولي في إعادة الإعمار. وعندما نتحدث عن رؤية سوريا مختلفة لطبيعة علاقاتها الخارجية، فإن الاقتصاد هو ركن أساسي من هذه الرؤية. وعندما نتحدث عن تكلفة تتراوح ما بين 600 إلى 900 مليار دولار لإعادة الإعمار، فإن الاقتصاد يتقدم بلا شك.
وكان الرئيس الشرع صرح عشية زيارته لروسيا أن معاناة سوريا المستمرة منذ 14 عاماً تستدعي جهداً دولياً، ورفع العقوبات التي ترهق الاقتصاد والشعب السوري. وقال: العالم تابع المأساة طوال 14 عاماً دون أن يتمكن من وقفها، واليوم عليه أن يشارك في إعادة الإعمار.
وإذا كانت الملفات السياسية والعسكرية توصف عادة بالملفات الساخنة والثقيلة، فإن الملفات الاقتصادية توصف بأنها ملفات هادئة تُدار بعقل بارد، وعلى مستوى تحقيق أكبر منافع ممكنة.. علماً أن التوصيف ليس دقيقاً بشكل كامل، إذا لا يمكن فصل الملفات بصورة حادة، أو لنقل بصورة كاملة، فهي على الأغلب تكون مرتبطة بصورة وثيقة، خصوصاً إذا كنا نتحدث عن علاقات من حجم ومستوى العلاقات السورية الروسية.

الرئيس الشرع حرص على توضيح هدف الزيارة مستخدماً لغة دقيقة ومحددة على قاعدة «إعادة تعريف طبيعة العلاقات» المستقبلية

علماً أنه على المستوى الدولي هناك علاقات تعاون يتم فيها الفصل بين الملفات، خصوصاً العسكرية وفصلها عن الاقتصادية، كما في الحرب الأوكرانية وعلاقات روسيا مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

– ما بعد الزيارة

بعد زيارة الرئيس الشرع إلى روسيا ولقائه الرئيس بوتين، من المتوقع أن تسجل العلاقات بعد «إعادة تعريف طبيعتها» المستقبلية.. من المتوقع أن تسجل تقدماً مهماً على صعيد التعاون والتنسيق.
وبخلاف ما يتم التركيز عليه من قبل المحللين والمراقبين، على الجانب العسكري ومسألة تسليم بشار الأسد، فإن الملفات الاقتصادية ستكون لها أولوية، إذا ما أخذنا تركيز الرئيس الشرع بصورة رئيسية على إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد. ومن مجمل تصريحاته فهو يرى أن روسيا يمكن أن يكون لها دور مهم في ذلك.

الاقتصاد كان حاضراً.. عندما نتحدث عن رؤية جديدة للعلاقات فإن الاقتصاد ركن أساسي.. وعندما نتحدث عن 600 إلى 900 مليار دولار لإعادة الإعمار فإن الاقتصاد يتقدم بلا شك

هذه المسألة لا ترتبط بصورة أساسية بالملف العسكري، إذ يبدو أن لا خلاف كبيراً حول القاعدتين الروسيتين، وأنه من الممكن أيضاً «إعادة تعريف لعملهما ودورهما».. هذه هي السياسة، ليست صورة للماضي بقدر ما هي صورة للمستقبل، وبقدر ما يمكن تجيير الماضي بدوره خدمة للمستقبل، لتكون العلاقات السورية- الروسية على سكتها الصحيحة.. تعاون على أساس الاحترام، وتبادل مصالح لا تبعية، وتأكيد على السيادة والقرار المستقبل.

– السوريون يتابعون..

بقي أن نقول إننا كسوريين نتابع زيارة الرئيس الشرع بكل تفاصيلها، حتى أدقها، بما فيها ما يسمى «لغة الجسد».. وهناك انطباع إيجابي عام من مجمل الزيارة والتصريحات خلال اللقاء بين الرئيسين الشرع وبوتين.
وإذا كان فريق من المحللين يحلو له المغالاة فيما يمكن أن تقود إليه الزيارة مستقبلاً، ويقولون إن النتائج ستكون على مستوى «تحالف صادم يهز الشرق الأوسط» بمعنى أن ما سيجمع سوريا وروسيا سيكون تحالفاً أكبر وأقوى من التحالف السابق، فإننا كسوريين نؤكد الثقة بالقيادة وأن القيادة إذا كانت بصدد إقامة تحالفات مع أي دولة، وليس روسيا تحديداً، فإنها ستفعل ذلك على أساس المصالح الوطنية العليا.. سوريا أولاً وآخراً.

Leave a Comment
آخر الأخبار