ندوب لا تمحى.. معاناة مشوهي الحرب في سوريا وسبل إعادة البناء

مدة القراءة 6 دقيقة/دقائق

الحرية– بشرى سمير :

بعد أكثر من عقد ونصف العقد على الحرب السورية، لا تزال تداعيات الحرب المدمّرة تُلقي بظلالها الثقيلة على ملايين السوريين. ومن بين أكثر الفئات معاناةً أولئك الذين تركَت فيهم الحرب “مشوهين” ليس فقط في أجسادهم، بل في نفوسهم وعقولهم.
إنهم الناجون الذين تحملوا إصابات بالغة غيّرت مسار حياتهم إلى الأبد، والذين يحتاجون إلى رعاية شاملة ومستدامة تتجاوز العلاج الطبي العاجل.

من البتر إلى الإعاقات الدائمة

يقول الدكتور محسن الآغا اختصاصي جراحة الأطراف وتركيب الأطراف الصناعية: “لم تكن الحرب السورية حرباً تقليدية بمعنى الكلمة، بل شهدت استخداماً مكثفاً للأسلحة المتفجرة في مناطق مأهولة بالسكان، مثل القنابل والبراميل المتفجرة والغارات الجوية والصواريخ.. أدى هذا إلى نمط فريد من الإصابات.
وتتنوع الإصابات الجسدية لمشوهي الحرب بشكل كبير هناك شباب وأطفال بترت أطرافهم، فقد أدى انتشار الألغام والقنابل والتفجيرات إلى حالات بتر بالآلاف، ما استلزم تركيب أطراف صناعية وتأهيلاً طويلاً لكيفية التعايش معها.


كما شاهدنا إصابات عصبية وإصابات الحبل الشوكي التي أدت إلى الشلل النصفي أو الكلي، ما يجعل المريض طريح الفراش ويحتاج إلى رعاية دائمة، مع كل المشاكل الصحية المرتبطة به كالتقرحات والتهابات المسالك البولية.
ولفت الآغا إلى أن النيران والمواد الكيميائية والمتفجرات والبراميل المتفجرة، تسببت بإصابات بالغة الحروق مشوّهة للوجوه والأجساد وهذه تتطلب عمليات تجميلية متعددة وعلاجاً طويلاً للألم، وهناك حالات فقدان البصر أو السمع، نتيجة للانفجارات القريبة أو الشظايا، والعديد من الإصابات الداخلية المزمنة والتي تستمر في التسبب بالألم وتحتاج إلى متابعة طبية مستمرة.

طبيبة نفسية لابد من اعتراف العالم بمعاناتهم والتزام حقيقي ومستدام لتوفير الرعاية الصحية الشاملة والنفسية لهم

وبين الآغا أن المشكلة تكمن في النظام الصحي في سوريا، لاسيما في مخيمات النازحين واللاجئين، فهو مُنهك وغير قادر على تلبية هذه الاحتياجات المعقدة والمكلفة، رغم ما شهدنا من تحسن في الآونة الأخيرة.

الجروح الخفية

من جانبها الدكتورة هويدا الدوماني اختصاصية أمراض نفسية أشارت إلى أن الإعاقات الجسدية مرئية لكن الندوب النفسية أعمق وأكثر استمرارية يعاني منها معظم مشوهي الحرب، وهي غير مرئية فهناك ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وتمثل في كوابيس متكررة، وذكريات مروعة للمشاهد الصادمة، وتجنب للأماكن أو الأصوات التي تذكرهم بالحادث، وفرط في اليقظة والانفعال.
وهناك الإصابة بالاكتئاب والقلق نتيجة الشعور بالعجز، وفقدان الأمل في المستقبل، والاعتماد على الآخرين، والتغير الجذري في ملامحهم وقدراتهم ما يجعلهم يعانون من اضطرابات التكيف وصعوبة في تقبل الواقع الجديد والتكيف مع الإعاقة، ما قد يؤدي إلى العزلة الاجتماعية والانسحاب من الحياة خاصة في حالات التشوهات الظاهرة في الوجه، حيث يشعر الشخص بأنه منبوذ أو مختلف.
وأضافت: غالباً ما يتم إهمال الجانب النفسي بسبب نقص الأخصائيين والوصم المجتمعي المرتبط بالأمراض النفسية.
وترى الدوماني أن مساعدة مشوهي الحرب ليست عملاً خيرياً مؤقتاً، بل استثمار في إعادة بناء الإنسان والمجتمع، وتقترح أن يتم تعزيز خدمات إعادة التأهيل وإنشاء مراكز متخصصة لإعادة التأهيل الطبي والنفسي مجهزة بأحدث التقنيات (أطراف صناعية، أجهزة تعويضية)، وبطواقم طبية متخصصة إضافة تقديم الرعاية الصحية النفسية ودمج الصحة النفسية في الرعاية الصحية الأولية، وتدريب الكوادر المحلية على تقديم الدعم النفسي الأولي والعلاج السلوكي المعرفي وتوفير الرعاية المنزلية والتلطيفية من خلال تأمين فرق طبية متنقلة لتقديم الرعاية للمرضى طريحي الفراش في منازلهم، وإدارة الألم المزمن.

توفير القروض

وفيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والاقتصادي، أشارت الدوماني إلى ضرورة توفير قروض صغيرة، وتدريب مهني يتناسب مع طبيعة إعاقاتهم (مثل العمل على الحاسوب، الحرف اليدوية..) لمساعدتهم على تحقيق اكتفاء ذاتي واستعادة كرامتهم وتقديم معاشات شهرية أو مساعدات مالية للعائلات التي يعيلها شخص مشوه، لتخفيف العبء الاقتصادي والعمل على إنشاء مجموعات الدعم المتبادل حيث يلتقي الناجون مع بعضهم البعض لتبادل الخبرات وتقديم الدعم المعنوي، ما يخفف من شعورهم بالوحدة.
أما فيما يتعلق بالجوانب القانونية فقد أشارت إلى أهمية سن قوانين تحمي حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وتكافح التمييز ضدهم في فرص العمل والتعليم وإقامة حملات توعية لتغيير النظرة المجتمعية تجاه المشوهين، وترسيخ مفهوم أن الإعاقة ليست عجزاً كاملاً، وأن هؤلاء الأشخاص لديهم طاقات وقدرات يمكن استثمارها.
والعمل على جعل المرافق العامة ووسائل النقل مهيأة لاستقبال الأشخاص ذوي الإعاقة، لضمان دمجهم الكامل في المجتمع.

واجب انساني وأخلاقي

وأنهت الدوماني حديثها بالقول: ضحايا الحرب المشوّهون في سوريا هم بشرٌ حُرموا من ملامحهم وحياتهم الطبيعية. جراحهم ليست جسدية فحسب، بل هي ندوب في الذاكرة الجمعية للأمة. بينما توجد جهود حثيثة ومشرفة لتأهيلهم، إلا أنها تبقى غير كافية أمام ضخامة المأساة.
وأضافت: ما يحتاجه هؤلاء الضحايا يتجاوز الأطراف الصناعية والعمليات التجميلية؛ يحتاجون إلى اعتراف العالم بمعاناتهم، وإلى التزام دولي حقيقي ومستدام لتوفير الرعاية الصحية الشاملة والنفسية، وإلى دمجهم الكامل في مجتمعاتهم دون تمييز أو وصمة عار.
إن مساعدتهم ليست عملاً خيرياً فحسب، بل هي واجب إنساني وأخلاقي، وخطوة ضرورية على طريق بناء أي سلام مستقبلي في سوريا، سلام لا يُبنى على إنكار الألم، بل على الاعتراف به والتعامل مع آثاره.

Leave a Comment
آخر الأخبار