مقاهي اللاذقية… ذاكرة بحرٍ وحديثُ مدينة

مدة القراءة 4 دقيقة/دقائق

الحرية – نهلة أبو تك:

في مدينة تتكئ على البحر، وتفوح من أزقتها رائحة الملح والتبغ، لم تكن المقاهي في اللاذقية مجرّد أماكن لشرب الشاي أو تدخين النرجيلة، بل شكّلت ذاكرةً جماعية لأبنائها، وملتقىً يوميًا لبحّارة ومثقفين، ومنابرَ للقصص والأخبار، وعنوانًا لحياةٍ اجتماعيةٍ تمتد جذورها إلى عقود طويلة.
حتى تفاصيل هذه المقاهي، من كراسي الخيزران إلى فناجين الشاي، لم تكن بعيدة عن بيئة المحافظة، فالخيزران المستخدم في أثاث المقاهي كان يُزرع محليًا على ضفاف أنهار اللاذقية الكثيرة، ما جعل هذه الأماكن امتدادًا طبيعيًا للحياة الزراعية في اللاذقية.

مرافئ للقلوب قبل السفن..

منذ مطلع القرن العشرين، ارتبطت مقاهي اللاذقية بموقعها البحري، فكانت مقصدًا للبحّارة القادمين من عرض البحر. يجلسون على كراسي الخيزران، يرتشفون الشاي العصملي، ويتبادلون الحكايات في انتظار موعد الرسو أو الإبحار مجددًا.
وما إن تلوح في الأفق سفينة “بابور” كما يسمونه اهل اللاذقية، حتى يتسابقون للعودة إلى العمل والاغتراب، محمّلين بذكريات الغربة وأمل اكتشاف بلدان جديدة ترسو بها السفن. فالعمل في البحر مهنة توارثتها أجيال من أبناء اللاذقية، فلا يكاد يخلو بيت من بحّار.
يقول البحّار الثمانيني أبو عبد مصطو:
“المقهى كان المتنفّس الوحيد، ننتظر فيه السفن ونتبادل القصص، هو مرسى أرواحنا قبل أن يكون محطة انتظار.”
ومع الوقت، لم تعد المقاهي حكرًا على البحّارة، بل صارت وجهة يومية لأهالي المدينة، ومرايا تعكس نبض الحياة اللاذقانية بما فيها من دفءٍ وبساطة.

من العصافيري إلى الرياض… لكل زاوية حكاية

يُعدّ مقهى العصافيري من أقدم وأشهر مقاهي المدينة، شُيّد في أربعينيات القرن الماضي على قطعة شبه جزيرة تطل على البحر، فكان ملتقىً للزوّار والبحّارة والفنانين، ومتنفسًا شعبيًا يجمع الناس على الشاي والنرجيلة وأحاديث السياسة والفن.
يقول أحد أبناء المدينة:
الجلوس على شرفة العصافيري مع صوت الموج متعة لا تُنسى… كنّا نسمع الأخبار من أفواه البحّارة قبل أن تبثّها الإذاعة، المقهى لم يكن مكانًا، بل مساحة انتماء.
وإلى جانب العصافيري، برزت مقاهٍ مثل الرياض، التي حملت أسماء ذات طابع ثقافي وتاريخي، وعكست محبة  أبناء المدينة لاشقائهم العرب، كانت هذه المقاهي محطات يومية لتبادل الحديث، وواجهات اجتماعية تعبّر عن تنوّع البيئة المحلية وتفاعلها مع محيطها.

مسارح وفضاءات فنية..

في قلب الذاكرة اللاذقانية، يحتلّ مقهى شناتا الكبير مكانةً مميزة، إذ كان من أوائل المقاهي التي أدخلت عروض الموسيقى والسينما في الهواء الطلق. يجتمع فيه الروّاد لمشاهدة أفلام أو الاستماع إلى فنانين يؤدون أغنياتهم مباشرة.
أما مقهى إسبيرو، فكان مأوى للفنانين والمثقفين، ووجهة لمحبي الفن والقراءة، وفضاءً ثقافيًا مفتوحًا على ضفاف المتوسط.

صالونات شعبية تنبض بالحياة..

يقول الباحث التاريخي بسام جبلاوي في حديثه لـصحيفتنا الحرية:
مقاهي اللاذقية كانت بمثابة صالونات شعبية، أقرب ما تكون إلى الصالونات الأدبية، لكنها أكثر عفوية وتنوّعًا، في العصافيري أو البديوي، كنت ترى أطياف المجتمع كاملة: البحّارة، المتقاعدون، المثقفون، وشبان يتعلّمون السياسة والشعر على وقع نرجيلة وقصيدة.

ويضيف: حتى في خمسينيات القرن الماضي، كانت هناك حياة ليلية مرتبطة بالمقاهي البحرية، تعكس روح المدينة المنفتحة والمثقفة.

من الحارات إلى الثقافة الحديثة..

في أحياء المدينة، ازدهرت مقاهٍ شعبية مثل البديوي وقهوة شيخ الشباب، حيث اعتاد الناس قضاء نهاراتهم ولقاء أصدقائهم. كانت كل طاولة تحكي حكاية، وكل زبونٍ يضيف سطرًا في رواية المدينة.
ومع مرور الزمن، ظهرت مقاهٍ جديدة ذات طابع ثقافي مثل نايا وهيشون، استقطبت جيل الشباب ومحبي الفن والمطالعة. ورغم اختلاف الواجهات والديكورات، ظلّت هذه المقاهي امتدادًا روحيًا لذاكرة المدينة القديمة.

حين يُغلق مقهى… تنطفئ ذاكرة..

مقاهي اللاذقية ليست مجرد أبنية بواجهات خشبية أو طاولات خيزران، بل هي جزءٌ حيّ من تاريخ المدينة، فيها تشكّلت الصداقات، ودوّنت الحكايات، وتبادلت القصائد والنكات. ومع كل مقهى يُغلق أبوابه، تُطوى صفحة من تلك الذاكرة الجماعية، لكن الروح لا تموت… بل تنتقل إلى زوايا جديدة، تُعيد صياغة الحكاية، برائحة التبغ، وصوت الموج، ودفء الجلسات.

Leave a Comment
آخر الأخبار