من البيروقراطية إلى الذكاء الصنعي.. الحوكَمة تَوجه إستراتيجي في ميزانِ التحديات وضرورةِ التحديث

مدة القراءة 10 دقيقة/دقائق

الحرية:
في عصرٍ يتسارع فيه التطور التكنولوجي بوتيرة مذهلة، يقفُ الذكاء الاصطناعي في الصف الأول كأحد أهم الأدوات التي يمكن أن تعيد تشكيل مفهوم الإدارة العامة، فما كان بالأمسِ ضرباً من الخيال العلمي، أصبح اليوم واقعاً ملموساً يغيّر طريقة عَمل الحكومات في تقديم خدماتها للمواطنين، فمن الروبوتات الذكية التي ترد على استفسارات المواطنين، إلى الأنظمة التنبؤية التي تحسن توزيع الموارد، أصبح الذكاء الاصطناعي اللاعب الرئيسي في معادلة التحول الرقمي الحكومي.
لكن هذا التحول لا يخلو من التحديات، فبينما تسابق دول مثل الإمارات والسعودية وسنغافورة الزمن لقيادة هذا المضمار، تواجه أخرى مثل سوريا تحديات جسيمة في تبني هذه التقنيات، فما هو واقع تطبيق هذه التقنيات في سوريا؟ وهل يمكن للحكومة السورية، في خضم الأزمات الاقتصادية والبنية التحتية المتضررة، أن تواكب هذا التحول؟

التنمية الإدارية: إدخال تقنيات الـAI في الإدارة توجه استراتيجي يعكس الرغبة في تحديث المنظومة الإدارية بما يتماشى مع المتغيرات العالمية

مصدر مسؤول في وزارة التنمية الإدارية صرّح لصحيفة “الحرية”، بأن الوزارة تسعى إلى إحداث نقلة نوعية في بنية العمل الحكومي من خلال إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة، وهو توجه استراتيجي يعكس رغبة الوزارة في تحديث المنظومة الإدارية بما يتماشى مع المتغيرات العالمية، هذا التحول لا يقتصر على مجرد تحديث تقني، بل يشمل إعادة صياغة العلاقة بين الموظف والمؤسسة من جهة، وبين المواطن والخدمة من جهة أخرى، إذ يتيح الذكاء الاصطناعي أتمتة العديد من العمليات الروتينية، ما يمكّن العاملين في القطاع العام من التفرغ للمهام التحليلية واتخاذ القرار، وبالتالي تحسين جودة الخدمات وسرعة تقديمها للمواطن، وتعزيز الشفافية والرقابة على الأداء.

الإبراهيم: يتيح الـ AI إمكانية القفز بالاقتصاد السوري إلى اقتصاد رقمي يتمتع بمرونة أكبر ويجذب الاستثمارات التقنية

الإعلامي حسين الإبراهيم المتخصص بالذكاء الاصطناعي والمحتوى الرقمي، علّق على تَوجه الوزارة بأن الحكومة الرقمية الذكية ليست ترفاً تقنياً، بل ضرورة ملحة لمواكبة العصر، وفي بلد مثل سوريا، تعاني البيروقراطية من التعقيد، يمكن للرقمنة أن تُحدث نقلة نوعية في الكفاءة والشفافية، وتُسرّع العمليات الإدارية، تقلل الفساد، وتوفر للمواطن خدمات أكثر سلاسة بتكلفة أقل، ومن تقديم وثائق رسمية إلكترونياً إلى تسريع القرارات الحاسمة عبر تحليل البيانات، وإن الحكومة الذكية هي الطريق نحو اقتصاد أكثر استدامة وتوفر خدمات أفضل للجميع.

جهود حثيثة
تعاني سوريا من ضعف البنية التحتية الرقمية، حيث لا تزال معظم المعاملات الحكومية تعتمد على الأوراق، كما أن غياب التحول الرقمي الشامل يعوق استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة، وعلى الرغم من ذلك، توجد بعض المبادرات المحدودة، مثل إنشاء قواعد بيانات للعاملين في القطاع العام، بهدف تحسين إدارة الموارد البشرية وتقليل الفساد، وتنظيم ورش عمل متخصصة لتدريب فرق التنمية الإدارية في الجهات العامة على استخدامات الذكاء الاصطناعي في التطوير المؤسسي، ومشاركة سوريا في اجتماعات دولية حول الذكاء الاصطناعي، مثل “المجموعة التخصصية للذكاء الاصطناعي من أجل الصحة” في جنيف, و”استخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الطبي”، وتطبيقاته في الجراحة البولية، في المؤتمر العلمي السابع والثلاثين للجراحة البولية في دمشق.

الإبراهيم: تحدي المستوى التعليمي هو تحدّ حقيقي لكن الحل ليس في تأجيل التحول بل في تبنيه بشكل تدريجي وموجه

الموظف العصري
في سياق متصل، أطلقت وزارة التنمية الإدارية ورشات عمل ميدانية، استهدفت فرق التنمية الإدارية في عدد من الجهات العامة، حيث ركزت الورشات على الجانب التطبيقي بشكل أساسي، بعيداً عن الطروحات النظرية التقليدية.
تلقّى المشاركون تدريبات مكثفة على أدوات الذكاء الاصطناعي وأساليب استخداماتها في سياق العمل الإداري، ما زوّدهم بمهارات عملية يمكن نقلها مباشرة إلى بيئة العمل.
وأوضحت الوزارة أن الانطباعات كانت إيجابية، والتجربة أثبتت أن الاستثمار في هذه الكوادر يثمر نتائج ملموسة وسريعة، وقد بدأ بالفعل التحضير لتنظيم ورشات إضافية على نطاق أوسع.
وأضافت: إن إحدى المهارات الجديدة التي تم التركيز عليها بشكل خاص كانت ما يُعرف بـ “هندسة الأوامر” أو Prompt Engineering، وهي مهارة جوهرية في التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، من خلال إتقانها، يصبح الموظف قادراً على التواصل الفعّال مع هذه النماذج، والحصول على نتائج دقيقة وذات جودة عالية.
ولفتت الوزارة إلى أنه مع تسارع التطورات التقنية، تبدو هذه المهارة بمثابة مهنة المستقبل التي ينبغي أن يتقنها كل موظف عصري يسعى إلى البقاء في قلب العملية الإدارية المتطورة. وتعكس هذه المقاربة الجديدة توجه الوزارة نحو بناء كفاءات رقمية متقدمة داخل القطاع العام.

ضمان الأثر
من التدريب إلى التنفيذ، كيف نضمن الأثر؟ وما أهمية المتابعة بعد التدريب وتبني آليات تقييم وتطوير مستمر؟
في هذا الصدد، نوهت الوزارة بأنها تعمل على اعتماد آليات تقييم أداء مستمرة، تتيح رصد مدى تطبيق المهارات المكتسبة على أرض الواقع.
كما تعمل التنمية الإدارية على إدخال أنماط وأساليب عمل إدارية حديثة ضمن الجهات العامة، وهو ما يسهم في توطين هذه المهارات الجديدة وجعلها جزءاً من الثقافة التنظيمية. بهذه الطريقة، لا تبقى مخرجات التدريب محصورة في الإطار النظري، بل تتحوّل إلى ممارسات مستدامة تدعم التطوير الإداري الشامل، وتعزز جاهزية المؤسسات العامة للتعامل مع متطلبات العصر الرقمي.

تحديات وفرص
وإذا ما نظرنا إلى واقع الذكاء الاصطناعي وتطبيقه في سوريا، فلا بُدّ سنواجه العديد من التحديات الرئيسية التي تعوّق إنجازه بسرعة ومرونة كافية، إذ يرى الإبراهيم بعضاً من التحديات التي تواجه تطبيق الذكاء الصنعي، من أهمها ضعف البنية التحتية التقنية، فالعديد من المناطق تفتقر إلى شبكات إنترنت موثوقة.
أيضاً، نقص الكفاءات التقنية يتطلب الحاجة لتدريب موظفي القطاع العام على استخدام التقنيات الحديثة، وانتشار الثقافة المؤسسية التقليدية، التي تتجلى بمقاومة التغيير والتردد في تبني الابتكارات.

إلا أن الإبراهيم نوه بوجود العديد من الفرص المُمكنة والمزايا التي سيقدمها إدخال الذكاء الصنعي في الإدارة، أهمها إمكانية القفز بالاقتصاد السوري إلى اقتصاد رقمي يتمتع بمرونة أكبر، وإيجاد بيئة تفاعلية تربط المواطن بالمؤسسة مباشرةً، ما يعزز الثقة بين الجانبين، علاوةً على جذب الاستثمارات التقنية بمجرد تحسين البنية الرقمية وتطبيق السياسات الذكية.
علّقت الوزارة على هذا الطرح، بأنها على دراية كاملة بوجود تحديات واقعية، ولا بد من التعامل معها بوعي ومسؤولية، منها البنية التحتية غير الجاهزة في بعض المؤسسات، والحاجة المُلحة إلى رقمنة البيانات، إلى جانب ضعف المعرفة التقنية لدى بعض الكوادر، وأحياناً وجود مقاومة ثقافية للتغيير، وقد نوقشت هذه التحديات بشكل صريح خلال الورشات التدريبية التي أقامتها، حيث تم التأكيد على أهمية التدرج في التطبيق، وتوفير بيئة مشجعة للتعلم والتجريب، إضافة إلى الاستثمار في التدريب وبناء القدرات، والعمل على تعزيز ثقافة التغيير داخل المؤسسات.

مقاومة للتغيير
فمن سيقف في وجه هذا التغيير والانتقال نحو المجتمع الرقمي؟
المقاومة برأي الإبراهيم، قد تأتي من عدة جهات، وهم أولاً البيروقراطيون التقليديون، الذين يخشون فقدان نفوذهم بسبب الشفافية والأتمتة، ثم الشركات غير المستعدة للتغيير التي قد تجد صعوبة في التكيف مع المتطلبات الرقمية. وأخيراً، المجتمع نفسه، إذ قد تواجه بعض الفئات صعوبة في قبول التغيير بسبب نقص المعرفة التقنية أو المخاوف من المجهول.
وهنا كان لا بُدّ من السؤال، هل نحن على استعداد لهذا التوجه في وقت يفتقر فيه عدد كبير من المواطنين للمستوى التعليمي والقدرة على التعامل مع التكنولوجيا؟
يُجيب الخبير حُسين، إن هذا التحدي حقيقي، لكن الحل ليس في تأجيل التحول، بل في تبنيه بشكل تدريجي وموجه، ويتم ذلك من خلال بناء برامج تدريب شاملة تشمل المواطنين وموظفي القطاع العام لتطوير المهارات الرقمية، و تعزيز البنية التحتية لضمان وصول الجميع إلى الأدوات التقنية، بالإضافة إلى التركيز على الحلول البسيطة والقابلة للتطبيق التي لا تتطلب تعقيداً كبيراً، مثل تطبيقات الهواتف الذكية.

هاجس الوظائف
وما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيهدد الوظائف التقليدية الحالية، يُضيف الإعلامي حسين الإبراهيم: بالطبع، الذكاء الاصطناعي سيُغيّر سوق العمل، لكنه لا يعني بالضرورة ارتفاع البطالة، فبالعكس إن التوجه نحو الذكاء الاصطناعي يوجد فرص عمل جديدة، مثل تطوير البرمجيات وإدارة البيانات وتحليلها، والأتمتة قد تحل محل بعض الوظائف الروتينية، لكنها تفتح المجال للإنسان للتركيز على مهام إبداعية واستراتيجية أكثر، والتدريب وإعادة التأهيل المهني يضمنان استفادة العمالة من الثورة التقنية بدلاً من أن تكون ضحية لها.
ختاماً، إن النجاح في هذا التحول يتطلب أكثر من مجرد تبني التكنولوجيا، فهو يحتاج إلى إطار تشريعي مرن، وكوادر بشرية مؤهلة، وشراكة حقيقية بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، والتحدي الحقيقي ليس تقنياً بالكامل بل إنسانياً. بمعنى كيف نضمن أن تظل الحوكمة الرقمية شاملةً وعادلةً، وفي خدمة الصالح العام؟
الإجابة عن هذا السؤال ستحدد ما إذا كنا نبني مستقبلاً رقمياً أكثر كفاءة، أم مجرد أنظمة آلية تُكرس الفجوات القائمة. المستقبل الذكي يبدأ اليوم، لكنه يحتاج إلى حكمة البشر قبل ذكاء الآلات.

Leave a Comment
آخر الأخبار