الحرية – نهلة أبو تك:
في قلب السوق القديم بمدينة اللاذقية، وعلى مقربة من سوق هنانو، لا تزال رائحة الزعتر واليانسون والخزامى تعبق من محال العطارة، لتذكّر الزائر بأن هذه المهنة لم تزل حاضرة رغم تقلبات الزمن. العطارة، التي طالما اعتُبرت فناً شعبياً، تعود اليوم لتستعيد مكانتها، وسط إقبال متزايد من مختلف الشرائح العمرية على الأعشاب والخلطات الطبيعية، في زمن أصبح فيه الناس أكثر وعياً لما يدخل أجسادهم.
الخبرة إرث وعلم..
العطار أبو العبد، أحد روّاد هذه المهنة في المدينة، يؤكد أن العطارة ليست مجرد تجارة أعشاب، بل معرفة متوارثة تحتاج إلى علم وتجربة. يقول لـ”الحرية”: “نحن لا نبيع الأعشاب عشوائياً، بل نستمع إلى الزبون ونتعرف على حالته قبل تقديم أي خلطة، أحياناً نوجهه للطبيب إذا اقتضت الحالة، فالمهنة أمانة قبل أن تكون تجارة.
محله يضم تشكيلة واسعة من الأعشاب والزيوت الطبيعية، بعضها يُحضّر محلياً بطرق تقليدية تضمن نقاء المكونات، ويشير إلى أن ارتفاع أسعار الأدوية الكيميائية وآثارها الجانبية دفع كثيرين للعودة إلى الطبيعة.
البيئة الساحلية شريك أساسي..
تعتبر الطبيعة الساحلية في محافظة اللاذقية مصدراً أساسياً لديمومة هذه الحرفة، إذ تمتد الغابات والجبال من كسب إلى القرداحة وريف جبلة، وتحتضن أنواعاً نادرة من الأعشاب الطبية والعطرية، العطارون يجمعون هذه النباتات موسميّاً، ليحوّلوها إلى خلطات علاجية أو وقائية يطلبها الزبائن، ما يجعل الطبيعة شريكاً حقيقياً في استمرار المهنة.
ثقة الزبائن تتجدد
الزبائن يعكسون تلاقح التراث مع العصر الحديث، حيث تقول رنا، طالبة جامعية: أشعر بالراحة مع المنتجات الطبيعية، وأثق بخبرة العطار أكثر من الكريمات الجاهزة التي لا أعرف مكوناتها.
أم سامر، سيدة خمسينية، لجأت إلى الأعشاب بعد أن لم تجد جدوى من بعض الأدوية لابنها المصاب بالحساسية، مؤكدة: “أريد علاجاً بلا آثار جانبية، ووجدت عند العطارين خيارات مقنعة”.
أبو يوسف، أحد الزبائن القدامى، يضيف:
أعاني من مشاكل في القولون منذ سنوات، والعطار يعرف وضعي ويحضّر لي خلطات فعّالة أفضل من الدواء الكيميائي.
المهنة بين التراث والعصر..
العطارة ليست على وشك الاندثار، بل تتجدد بروح جديدة تتكيف مع متطلبات العصر، ما دامت تقوم على العلم والمعرفة والضمير. ومع الاهتمام المتزايد بالطب البديل، يظهر طلب الزبائن الشباب على المنتجات الطبيعية، وهو مؤشر على أن هذه المهنة العتيقة تمضي بثبات في طريقها، محافظة على مكانتها بين تراث الماضي واحتياجات الحاضر.