الحرية – باسمة إسماعيل:
مع بدايات مواسم قطاف الزيتون من كل عام، يعود عبقه ليملأ الأرياف، حيث تغدو الحقول مسرحاً لطقوس مفعمة بالبهجة والحنين.
في الساحل السوري، لا يعدّ هذا الموسم مجرد عمل زراعي، بل احتفال بالذاكرة والألفة والهوية، حيث تتلاقى الأيدي وتتعانق الأرواح على إيقاع أغاني الجدات ومواويل الصبايا.
هذا العام بدأ موسم القطاف وسط غياب التفاؤل، بعد أن أثرت الظروف المناخية على الإنتاج، لكن الأمل باق، كما يقول المثل الشعبي: “سنة محيل وسنة قبيل”، أي أن المواسم تتعاقب بين قلة ووفرة، لتعود الأرض وتمنح خيرها من جديد.
ذاكرة الريف والقلوب
في ذاكرة الريف الساحلي، لا تفارق رائحة الزيت والتراب تفاصيل الحياة اليومية، كانت أيام القطاف مشهداً أسرياً متكاملاً، يتقاسم فيه الجميع العمل والضحكة والخبز والماء والشاي المعد على الحطب.
يستعيد الثمانيني سلمان أبو علاء تلك الأيام قائلاً: كنا نعمل كخلية نحل حول كل شجرة، الأب يراقب من فوق البرميل، الأولاد يصعدون الأغصان العالية، والأم والأخوات تجمعن الحبات المتساقطة، كنا نأكل الخبز والحلاوة والسردين المغربي الحار، ونغني فرحاً بزيتوننا، اليوم خفّت تلك الألفة، وصار الاعتماد على الأيدي العاملة بديلاً عن دفء العائلة.
وتابع: كانت الجملة التي تتكرر في كل موسم تلخص التعب والاعتزاز معاً “الزيتون زيته طيب، لكن لقاطه بشيب”.
طقوس مبهجة وحكايات تورثها الأجيال
كما يقول الباحث في الموروث الشعبي اللامادي نبيل عجمية في حديثه لـ “الحرية”: إن موسم الزيتون كان ولا يزال موسم الألفة والخير، يملأ النفوس بعبق التراب وصوت الأغاني الشعبية التي تتناقلها الأجيال:
على دلعونا، على دلعونا… زيتون بلادي أحلى ما يكونا.
ويضيف عجمية أن الأجداد كانوا يرون في الزيتون بركة لا يجوز احتكارها، فيتركون شيئاً من الثمار للطير والحيوان والفقير، مرددين: “لا تنسوا فقراء ضيعتكم، أرسلوا لهم الزيتون والزيت ليذكروكم بالدعاء”.
ويتابع: كانت القرى أيامها خالية من الطرق المعبدة والسيارات، وكان الأهالي ينقلون محاصيلهم على ظهور الدواب، في مشهد يحكي البساطة والعزم.
ويؤكد الباحث أن الزيت آنذاك كان يحمل بركة أكبر، لأنه جني بالألفة والرضا.
التراث ذاكرة الشعوب وصوت الأرض
يعتبر عجمية أن التراث هو الأرشيف الحي لذاكرة الأمم، يوثق تفاصيل الحياة اليومية وينقلها من جيل إلى آخر، لتظل الأغاني والأمثال الشعبية مرآة لهوية الناس ووجدانهم، ومن الأمثال التي ارتبطت بمواسم الزيتون يقول:
“كُول زيت وناطح الحيط”.
“خلّي الزيت بجراره حتى تجي أسعاره”.
“الزيتون زيته طيب، بس لقاطه بشيب”.
“إذا عندي طحين وزيت صفّقت وغنّيت”.
الزيتون رمز الصبر والعطاء
ويوضح: يبقى موسم الزيتون في الساحل السوري طقساً من طقوس الفرح، يعيد الناس إلى جذورهم الأولى، إلى الأرض التي علمتهم الصبر والعطاء، وإلى الأغاني التي حفظت الذاكرة من الغياب،
كما كانت تقول الجدات دائماً: “الزيتونة بتجيب الزيت، وبنت الأصل بتعمر بيت”.
وننتهي بالقول إن موسم الزيتون ليس مجرد موسم للقطاف، بل فصل من الحنين، واحتفال بالألفة التي لا تذبل، كما لا تذوي شجرة الزيتون الخضراء أبداً في وجه الريح والزمان.