الحرية – أمين الدريوسي:
في خطوة غير مسبوقة، وفي خضم المشهد السوري المعقد والمتشابك، حيث تتداخل السياسة بالدين والإنسانية، برزت زيارة القس الأمريكي جوني مور والحاخام أبراهام كوبر إلى دمشق كحدث يستحق التحليل الدقيق، إذ يبدو في ظاهره دينياً لكنه يحمل في باطنه أبعاداً سياسية عميقة، ففي الوقت الذي لا تزال فيه سوريا تعاني من تداعيات الحرب وتواجه تحديات جمة، أثارت هذه الزيارة اهتماماً واسعاً وتساؤلات حول أهدافها الحقيقية، وأبعادها السياسية والدينية، وتأثيراتها المحتملة على مسار الأحداث في سوريا والمنطقة، حيث التقيا بالرئيس أحمد الشرع، ولم يكن الهدف الأساسي من الزيارة مناقشة العلاقات مع «إسرائيل»، لكن الموضوع خلال اللقاء كان قد طُرح خاصة موضوع السلام، حيث عبّر مور عن اعتقاده بأن «السلام ممكن جداً» ولاسيما أن الرئيس الشرع يمتلك مقومات قيادية متميزة تمكنه من صياغة أجندة جديدة للسلام في المنطقة.
ومن تحليل السياق السياسي الراهن، فإن هذه الزيارة تعكس روح البحث عن بدائل وسبل تجاوز السيناريوهات التقليدية المعتمدة على المواجهة المباشرة، فقد سادت في السنوات الأخيرة حالة من الجمود الدبلوماسي في بعض القضايا الإقليمية، ما دفع بعض الجهات إلى تبني إستراتيجيات «الدبلوماسية الناعمة» وهنا يأتي دور الشخصيات الدينية التي تمتلك وزناً رمزياً وإمكانية التأثير على المواقف الشعبية، سواء داخل سوريا أو بين الدول المحيطة، إذ يُعدّ كلٌّ من القس مور والحاخام كوبر رمزين لتيارات ثقافية ودينية مختلفة، ومع ذلك، يلتقيان على أرض دمشق في إطار تعاون يسعى إلى إعادة رسم معالم الحوار وتجاوز الصور النمطية التي طالما قسمت المشهد السياسي والاجتماعي في المنطقة.
- الخلفية التاريخية
ولفهم دلالات الزيارة، لا بدّ من العودة إلى الخلفية التاريخية المعقدة لسوريا، فمنذ اندلاع الأزمة في سورية عام 2011، شهدت البلاد صراعاً دامياً أودى بحياة مئات الآلاف، وتسبب في نزوح الملايين، وتدمير البنية التحتية، ورغم استعادة الحكومة السورية الجديدة السيطرة على معظم الأراضي السورية، إلّا أن البلاد لا تزال تعاني من تداعيات الحرب، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية والإنسانية، بالإضافة إلى استمرار وجود قوى أجنبية على الأراضي السورية.
- الأبعاد الدينية والتضامن
قد يثير حدث الزيارة تساؤلات حول كيفية استغلال القوى الناعمة في السياسة الحديثة، ودور الأديان في تجاوز الانقسام والحث على اللجوء للحوار، كما يمكن استلهام نتائج هذا اللقاء لتقديم نموذج يُحتذى به في مبادرات السلام الأخرى في الأزمات العالمية، فالمستقبل يحمل الكثير من المفاجآت في لعبة المصالح التي تتحرك في الظل؟.. ومن هنا تظل الحاجة دائماً إلى تحليل عميق ومستمر حول هذه التحولات في معالم عالمنا السياسي والثقافي.
من الواضح أن الزيارة تحمل أبعاداً دينية وإنسانية، فزيارة أماكن العبادة المسيحية واليهودية في دمشق، تعكس رغبة في إظهار التضامن مع المجتمعات المسيحية واليهودية في سوريا، كما أنّ هذه الزيارة قد تكون مرتبطة بتقديم مساعدات إنسانية أو دعم للمنظمات العاملة في سوريا، في ظل الأوضاع الإنسانية الصعبة، التي يعيشها سواد الشعب السوري، ومع ذلك، يجب عدم إغفال أن هذه الأبعاد الدينية والإنسانية قد تكون بمثابة غطاء للعديد من الأهداف الأخرى.
- الأبعاد السياسية ولعبة المصالح
من الناحية السياسية وهي الأكثر إثارة للجدل، تحمل هذه الزيارة دلالات متعددة منها:
- تعزيز قنوات التواصل غير الرسمية، حيث يأتي الدور الدقيق للشخصيات الدينية في فتح الأبواب أمام حوارات غير رسمية التي يمكن أن تسهم في صياغة مبادرات سلام، فقد يكون هدف الزيارة اختبار الأجواء السياسية، وقياس إحساس الأطراف الكبرى والداخلية بإمكانية دخول مرحلة جديدة من العلاقات المتوازنة.
في ظل العزلة الدولية التي تعانيها سوريا، قد تفسر الزيارة على أنها محاولة لتخفيف هذه العزلة، وإظهار انفتاح دمشق على الحوار مع جهات خارجية، كما أن الزيارة قد تكون وسيلة لإرسال رسائل سياسية إلى جهات مختلفة، سواء داخل سوريا أو خارجها.
- إعادة تشكيل تحالفات اللعبة الإقليمية، وهنا تكمن لعبة المصالح في إدارة التحالفات وتعديل موازين القوى لصالح أطراف معينة، حيث يمكن للزيارة أن تُستغل كوسيلة لدعم جهات مؤيدة لفكرة الإصلاح والتقارب، أو على النقيض التلاعب بتوازن القوى التقليدي، ما يؤدي إلى ظهور سياسية جديدة تسعى إلى بناء جسر من الثقة بين الفئات المختلفة.
- التعامل مع القضايا الإنسانية، حيث إن الزيارة تحمل طابعاً إنسانياً بارزاً، و يُمكن أن يُستثمر التعاون بين قادة دينيين من خلفيات متفاوتة لإطلاق مبادرات تعزز الحوار الثقافي والاجتماعي، هذه المبادرات قد تكون مقدمة لبرنامج أوسع يعالج قضايا الفقر والتمييز ويُعيد صياغة المشهد الإنساني في دمشق وماحولها.
من هنا، نجد أن الشخصيات الدينية لم تختر مجرد مكان وزمان عابرين، بل كانت الزيارة بمثابة رسالة تحمل في طياتها آمالاً بتجديد نوع من الحوار مبني على الثقة والتسامح، وبعيداً عن تقليد العنف والصراعات الانقسامية.
- بين الأمل والتحفظ
ولكن تبقى زيارة القس مور والحاخام كوبر إلى دمشق حدثاً يستحق التأمل والتحليل العميق، فهي ليست مجرد لقاء ديني، بل جسرٌ يربط بين الأمل والتحفظ في آنٍ واحد، إنها محاولة لإحياء الحوار من خلال استغلال القوة الناعمة للأدب الديني والتحليل النفسي الجماعي، ما يضيف بُعداً جديداً إلى لعبة المصالح، وفي خضمّ تلك التحولات، تبقى الأسئلة مطروحة حول مدى إمكانية تحقيق توازن حقيقي بين الرغبة في السلام والتطلعات السياسية المتعارضة.
قد يكون هذا اللقاء بداية لقصة جديدة تتجاوز حدود المظاهر لتغوص في عمق التغيير الإستراتيجي في المنطقة، وفي المستقبل، ستسمح متابعة التطورات بدقة بفهم مدى تأثير مثل هذه المبادرات على المرحلة القادمة من السياسة الإقليمية، وما إذا كانت قادرة على إحداث نقلة نوعية في العلاقات بين الأطراف المختلفة.