الحرية- علي الرّاعي:
منذ العتبة الأولى لدخول مجموعتها “سلالة السرو” الصادرة عن دار الينابيع بدمشق؛ تدعوك الكاتبة هالا الشعار للتأمل الذي يتبعه وقفات طويلة للتأويل.
هذا العنوان الذي أول ما يوحي إليك، أو يتبادر إلى ذهن المتلقي مع مُفردة –السرو- التي تكتنز بمعجمٍ من الإحالات والتي قد تتناقض في بعض الأحيان، إحالات تودي أيضاً لمشاهد بصرية، كلُّ مشهدٍ يستدعي الآخر، تماماً كمن يرمي حصاةً في بركة ماءٍ، حيث تتوالد الدوائر دائرة إثر أخرى.
هنا أول اهتزازات وجه الماء، سيأتي بدائرة الخضرة، أو مشاهدها، مع كل ما يترافق معها من رقةٍ وخصب وتواضع، والتي بدورها ستحضر معها بساتين وحدائق وأسيجة حقول وغابات، وثاني الدوائر أو المشاهد ما يوحي بالرسوخ والثبات والتجذر والتمسك بالأرض، وثالث دوائر هذه العتبة – العنوان؛ هو السمو صوب الأعالي والتطلع ارتفاعاً، وإذا ما اكتفينا بهذه الدوائر الثلاث التي توحي بها مفردة واحدة من العنوان، وأضفنا إليها المفردة الأولى “سلالة” التي توحي هي الأخرى بقوم وعائلة ومكوّن إنساني، الأمر الذي يُمكّن من دخول بوابة المجموعة باطمئنان للتعرف إلى أفراد عائلتها وإلى بيتها بكلّ ما يوحي ذلك من “غنى” الإحالات الذي حاولت الكاتبة أن تغوي به المتلقي بالدخول.
“هدأت القذائف؛
آخرُ الفاريّنَ؛ كان غرابٌ، يتبعهُ غُرابٌ آخر.
لم استطع تحديدَ جنس أيهما في تلك الظروف،
وضمن هاتيك المسافة.”
هنا سيجد القارئ، أو سيتعرف على بستانٍ تتنوّع فيه الأشجار ومن الأعمار كافة. ذلك أن الشعار لم تكتفِ بجنسٍ إبداعي واحد، رغم أنها حددت جنس نصوصها على غلاف المجموعة بالـ “شعر”. غير أن النصوص لم تكتفِ بالشعر وحده، صحيحٌ أنّ فيها “شعرية” عالية، غير أنها، وعلى إيقاع هذه الشعرية، ستنوّع الشعار بغير جنس أدبي تنتقل بين خاطرةٍ حيناً وبين قصة قصيرة جداً حيناً آخر، وطوراً نصوص هايكو، ومرات كثيرة قصص شعرية، والنص الذي استشهدنا به أعلاه هو قصة قصيرة جداً، فيما النص التالي يدخل حيز مختلط بين القصة القصيرة جداً والشعر.
“حنين الأرض
أيحاولُ الغبارُ اللّحاق
بقافلة الغياب
عاصفةٌ غُبارية.”
غير أنّ أكثر ما يُلفت الانتباه في “سلالة السرو” تلك المتواليات التي تتناسلُ من ذات العنوان، والتي غالباً ما تتناول موضوعاً محدداً يكون شاغل تلك المتواليات حيث تنوّع على ذلك الهدف بصياغاتٍ جديدة في كلّ متوالية، كباحثٍ يُريد إشباع أطروحته دراسةً مهما أكثر من التفاصيل.
في هذه المتواليات التي تأخذ جلَّ النصوص، تُشاغلُ الشاعرة بياض الصفحة كفنانٍ تشكيلي في مزجه الألوان، ثم بضربات الريشة وانزياحات الألوان؛ تُشكّلّ التكاوين والخطوط مراعيةً توزع الظل والضوء والهواء، هي هكذا توزع متوالياتها على كامل البياض كحالةٍ شعرية مشدودة دائماً لذات العنوان خشية ضياعٍ آو تيه.. متواليات يُمكن للمتلقي أن يقرأها معاً ودفعة واحدة، أو قراءتها فُرادى من دون أن يُضحّي بأي جماليات.
“أذان الفجر
أفتقدُ جلبة
وضوئكَ.”
وعلى سيرة متواليات الشعار، سأتوقفُ قليلاً عند نصوص “خريف” التي اختارت من أشجاره “القيقب” ذات الاسم الغريب بعض الشيء عن المعتاد من أسماء الأشجار المحلية، وهي شجرة تكاد تكون منتشرة في كل مناطق العالم وإن كانت بمسميات أخرى مثل “الاسفندان” يوجد منها حوالي 125 نوعاً.. اتخذت كندا ورقة من هذه الشجرة سنة 1965 شعاراً لها. والتي أغلب أنواعها نفضية (أي التي تنفض أوراقها نهاية كل موسم) كما تنمو أوراقها في أزواج، كل ورقة عكس اتجاه الأخرى. فصّلت بعض الشيء في تعريف هذه الشجرة لما قد توحي به مفردات النصوص حين تركيبها آخذة من تلك الإحالات ما يوسع في دائرة التأويل التي كانت لعبة الشاعرة، أو هنا كانت تكمن فاعليتها الإبداعية. التي تُكثر منها ولاسيما لأحداث بعينها، أو ظواهر، وهذا ما يُعطي للنص آنية، أو يحدث “الآن وهنا”.
“كلُّ ذلك يجري تحت شجرة القيقب،
التي تنتظرُ رياحاً أكثر عنفاً لتتخلى عن أوراقها الآيلة للسقوط،
ربما عندها؛ يُمكن للمارة،
أن يُشاهدوا أعشاشَ السنونو الفارغة.”
في بعض الأحيان تفاجئنا الشعار بتراكيب بين مُفرداتٍ اعتادت أن تكون مُتناقضة، أو قلما تجتمعُ معاً، حيث تدخلها مختبرها، وفي مسيرة الانزياحات تخرجها بهذه الكيمائية التي تُعطي للتراكيب سحرها كما في مثل هذا (الهايكو).
“صامتان
بانتظار أن ينفضّ سوق الأحد
دوريٌّ ومُشرّد.”
ومن الملامح التي يُمكن للمتلقي أن يتلمسها في “سلالة السرو”؛ هي الحكائية، أو القصصية التي تسمُ أغلب نصوص المجموعة، الأمر الذي يبعد النص عن الجمود والإنشائية، وذلك بالإصرار على إيضاح حدثٍ ما، كما يُمكن أن نتلمس شيء من “الحذف” حيث تترك شيئاً من البياض ليكمله قارئٌ مُتابع يعرف تتمة النص، ويقترحُ له خواتيمه، وهناك المشهدية التي برعت فيها، أو ما أطلق عليه منذ قديم الشعر “الرسم بالكلمات” ، ولاسيما في نصوص الهايكو، ذلك الرسم الذي يُغني عن مئات الكلمات لما توحي المشاهد من حالةٍ بصرية تخييلية تزيد من سعة ضيق العبارة.
ورغم اقتصاد الشعار بكلمات معظم النصوص، غير أنّ ذلك لا يمنع أن نُصادف الكثير من السرد في بعض بعضها الآخر، وهي قليلة بكلِّ الأحوال واسيما في متوالية “سلالة السرو” التي استعارت عنوانها ليكون عنواناً عاماً للمجموعة، وهنا كان لافتاً هذه الانعطافة السردية التي
قرّبت النصوص باتجاه التقريرية بعض الشيء.
بكلِّ الأحوال كنا قد تحدثنا عن “سلالة”، والسلالة هنا لا تعني التشابه التام في “سروها” وإنما ثمة أنواعٌ كثيرة لهذا “السرو” سواء بالطول أو اليناعة أو بالخضرة وحتى بالتفرع والارتفاع. من هنا جاءت بعض النصوص شديدة التكثيف حتى أنها تكاد تكتفي بمفردتين، وأخرى كانت تطول لأكثر من صفحتين.
“الحربُ هناك،
تتربصُ عاشقين علّقا صورتهما على جدار.
أبقت الحربُ من الصورة مسماراً وأثراً فاتحاً.”
صحيحٌ إنه رغم تنوع إيقاعات النصوص ونواسانها بين عدة أنواعٍ أدبية، غير أن ثمة نصاً بدا وكأنه خارج السرب، أو ربما يُحاول اللحاق به، وهو في كلِّ الأحوال مُغاير لكلِّ ما تقدم عنه وما تأخر، جاء أقرب إلى مرثية طويلة تنوسُ على الإيقاع الطويل كرواية، هو “مُرافعة” كما أطلقت عليه، مُرافعة أمام قاضٍ لا ملامح له، نص يتوسل السرد ليحكي قصة حياة تلوذ بالتشرنق والصمت.
الكتاب: سلالة السرو
الكاتب: هالا الشعّار
الناشر: دار الينابيع