الحرية- لبنى شاكر:
تتجاوز زيارة بيت (هيثم طباخة / أبو محمد) فكرة فنجان القهوة والحديث العابر، فالرجل حين حوّل بيته في حي القنوات إلى متحف شخصي للتراث الدمشقي، كان مُدركاً أن الزيارات ستطول لساعات حتى يُتاح للضيوف الفرجة على مقتنياته الكثيرة بدءاً من المفاتيح والساعات إلى صندوق العجائب وآلات العرض السينمائي.
لا يجني هيثم طباخة مالاً ولا تعنيه الشهرة إلا أن حماسه لكل ما هو قديم، استولى عليه منذ أعوام
ومع أن الفكرة تبدو جذابة بحد ذاتها، لكن ما ينضوي عليه الأمر أبعد من ذلك، فهو لا يجني مالاً ولا تعنيه الشهرة إلا أن حماسه لكل ما هو قديم، استولى عليه منذ زمن، رغم امتعاض أسرته التي فضّل أبناؤها استثمار ما أنفقه أبوهم على شراء الأنتيكا والشرقيات أو تحويل البيت إلى مطعم أسوة بالعديد من الأمكنة في دمشق القديمة عوضاً عن استقبال الناس بلا مقابل.
محبة دمشق أولاً
يقول طباخة بأن نشأته في بيت عربي بين الحميدية وجامع الأموي، جعلته على صلة وثيقة بكل ما هو قديم من الطعام إلى الثياب ونمط البناء، فأُغرم دون أن يشعر بما حوله. مع الزمن بدأ يقتني قطعاً متنوعة، وفي أحيان كثيرة كان يدفع مبالغ كبيرة ثمناً لشيء من التراث، ولم يفته البحث في تاريخ كل ما يشتريه، مؤكداً أن محبته لدمشق دفعته للتقصي وراء كل نادر، باذلاً في سبيل ذلك عمره وماله ووقته. فما قام به يحتاج “مال قارون وصبر أيوب وحلم سليمان”، وقد هيأت له الظروف التفرغ بشكل كامل لشغفه، حين كبر أولاده واستلموا العمل عنه. لكن الأمر لا ينتهي هنا، فالسر برأيه يكمن في ترتيب التحف بحيث تظهر جماليتها وسحرها، وهو ما لا يدركه معظم الناس.
زوّار البيت
يومياً يستقبل صاحب المتحف، عدداً من الزوّار، سمعوا عن المكان من أصدقاء لهم وأرادوا التحقق بأنفسهم من أن دمشقياً يعيش بين التحف في هذا الزمن!. وبالرغم من كثرة الأسئلة والاستفسارات، لا يخفي الرجل سعادته معتبراً إدخال السرور على قلب الناس، عملاً اختاره لنفسه، آملاً أن يكافئه الله بسرور مقابل، ولم يتردد بوضع رقم هاتفه على جرس البيت فلربما يريد أحدهم تحديد موعد للزيارة.
يومياً يستقبل صاحب المتحف زوّاراً يريدون التحقق بأنفسهم من أن دمشقياً يعيش بين التحف في هذا الزمن
تتفاوت أعداد الزوّار واهتماماتهم، منهم وزراء، سياح، أصحاب حرف، طلاب جامعات، جمعيات مهنية، باحثون في التراث، شعراء، وجهاء مدن. ولكل منهم كلمة في سجل الزيارات المخصص للضيوف. يقول طباخة: “لدي مجموعة مجلدات كبيرة كتب فيها زوّار متحفي كلمات تعبر عن رأيهم بما لدي. كتب لي أحدهم (بالشام، أهل الشام بيضلوا، متل الحجل كل واحد محلوا، بتفوت ع متحف صغير كتير، متل يلي فايت عالوطن كلو)”.
محتويات متنوعة
تكثر المحتويات في المتحف الشخصي، منها غرفة جلوس من الموزاييك عمرها 90 عاماً، إضافة إلى نماذج من “غلوبات، ثريات، سجاد”. لا تنفصل أي منها عن جغرافيا منطقتنا وتاريخها. أيضاً هناك مجموعة قيمة من الراديوهات التي انتشرت في المقاهي والحمامات في الماضي، يستحضر معها موسيقا أمير البزق “محمد عبد الكريم”، كإشارة إلى بدء البرنامج اليومي. ومما لديه، تشكيلة واسعة من “الخواتم، المسابح، أوانٍ خزفية وصدفية”. مع صور قديمة لدمشق وكبار شخصياتها، تحكي بعضها مهناً اندثرت أو نقاطاً فارقة في التاريخ.
في الطابق الثاني، تختلف المعروضات، منها براويز عمر أحدها 115 عاماً، مجموعة مكاوٍ عمرها 125 عاماً، تعمل على الفحم والببور الأخرس والكهرباء، كيس “سيروم” فرنسي عمره 150 عاماً. يحتفي الرجل أيضاً بـ “مصاصات متة، زجاجات، آلات كاتبة، خزن، طبلات، أسلحة، عملة ورقية ومعدنية، هاون الكبة، قوس التنجيد، قطرميزات، كرسي حلاق وطبيب أسنان، قباقيب، مجامر، أول غسالة يدوية صنعت في أميركا”. إضافة إلى الأزياء الشعبية لدمشق وريفها. يقول صاحب البيت، بأن من مقتنياته اللباس التقليدي لعدة مناطق منها “معربا” و”حرستا”، مع مجموعة من “المناديل، أغطية الرأس” لمناطق “المزة، داريا، كفرسوسة”.
عروض للبيع لا للمساعدة
خصوصية المكان كانت سبباً في عروض مغرية لبيعه أو مقايضة محتوياته بالمال، لكن الرجل كان يرفض باستمرار لأن “كل ما في بيته، غال على قلبه، عدا عن أن أبناء البلد هم المعنيون بالمحافظة على تراثها، لا أحد سيفعل ذلك عنهم، ولا حتى الجهات المعنية، فهي ليست جادة دائماً”. ويذهب إلى ما يتردد عن أن في “خان أسعد باشا” حوالي 44 غرفة فارغة في جزئه العلوي، فلم لا يتم الاستفادة منها بما يخص الصناعات اليدوية؟.
لم يتواصل طباخة مع أي جهة رسمية لكنه يستغرب غياب المبادرات من أي منها، حتى أن أحداً لم يعرض عليه المساعدة أو التطوير رغم زيارات الإعلاميين والناس إلى متحفه المتواضع.
وفي النتيجة لا مشكلة بالنسبة له، فما يعنيه هو استمرار هذا الإرث بعد رحيله، لذلك أوصى أولاده بأن يحافظوا عليه مهما كلفهم الأمر، آملاً أن يبحث الشباب في تاريخ الأجداد لإحيائه من جديد، كي لا نصبح شعباً بلا ذاكرة في حين لدينا الكثير مما هو جميل ونادر.