الحرية- مها سلطان:
رغم أن أوكرانيا هي القضية الطاغية على مشهد القمة الهاتفية الثانية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن الشرق الأوسط، حسب الاعتقاد العام، كان له الحضور نفسه تقريباً. وهنا يلعب الإعلام دوراً رئيسياً في هذه المسألة، وإذا ما اعتبرنا أن الإعلام الغربي/الأوروبي هو الطاغي هنا، فإن المهم بالنسبة له هو الحرب الأوكرانية ربطاً بكونها حرباً تقسم الغرب في استمرارها وفي سبل إنهائها، وعليها يتوقف مصير أوروبا، أو لنقل مصير التحالف الأميركي الأوروبي في وجهه الأبرز، حلف الناتو.
من أوكرانيا تحديداً ينطلق ترامب وبوتين لتقاسم العالم وما على الأوروبيين وزيلينسكي إلا الاستماع ثم الإيماء بالرأس موافقين
أيضاً، في مسألة طغيان القضية الأوكرانية، لا بد أن نأخذ الاعتبار ما يُصدرّه الجانبان الأميركي- الروسي، أي ما يريدان بالضبط أن يكون قيد التداول، وتالياً الاهتمام والانشغال، علماً أننا هنا لا بد أن نشير إلى أمرين:
– أوكرانيا ليست محل خلاف
الأول أن المسألة الأوكرانية لا تبدو محل خلاف كبير بين واشنطن وموسكو، على الأقل هذا ما تظهره تصريحات الجانبين، فلا نكاد نقع على أي تصريح يتحدث عن خلافات أو حتى إشكاليات، لدرجة أن المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وصل به الأمر-أمس- لوصف ترامب وبوتين بأنهما «زعيمان عظيمان متحدان لمصلحة الإنسانية وخير البشرية». هذا يعني أن ما يتفقان عليه بشأن أوكرانيا (وقضايا عالمية أخرى) هو أمر صائب بالمطلق، لا يجوز معه الاعتراض أو التشكيك، وهذه رسالة للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، وللأوروبيين الذين لا يكفون عن عقد الاجتماعات دون الانتهاء إلى موقف موحد، حتى إن زيلينسكي نفسه لا يُخفي يأسه واستسلامه للأمر الواقع الذي يفرضه ترامب. وكان مُختصر ما قاله بعد المحادثة الهاتفية بين ترامب وبوتين أنه يأمل في التحدث مع ترامب بشأن مكالمته مع بوتين. ولكن إذا ما عدنا إلى لقائه الشهير مع ترامب في البيت الأبيض (28 شباط الماضي) فإن أقصى ما يستطيعه زيلينسكي هو الاستماع، ثم الإيماء برأسه موافقاً.
إذا كانت أوكرانيا قضية غربية/أوروبية بحتة فلماذا يتم التفاوض حولها في عاصمة عربية؟
بناء على ذلك، وباعتبار أن أوكرانيا لا تبدو محل خلاف كبير، وترامب لا يعير اهتماماً للأوروبيين، فإن هذا يُناقض طغيانها، دون أن يعني ذلك أن أوكرانيا ليست في غاية الأهمية، بل هي كذلك. فمن أوكرانيا تحديداً ينطلق ترامب وبوتين لتقاسم العالم، كما يقول الأوروبيون.
– الشرق الأوسط
الأمر الثاني، أن هناك هدفاً من وراء تصدير أوكرانيا كملف أساسي، رغم أن تصريحات أميركية كثيرة تصدر على جوانبها، هي في غاية الدلالة لمن يتتبعها، وعلى الأكيد لا تخفى على المراقبين والمحللين وإن كان جلّ التركيز على أوكرانيا. لنأخذ مثلاً مكان انعقاد المفاوضات المباشرة الأميركية- الروسية حول أوكرانيا، حيث ستعقد في جولتها الثانية في المكان نفسه، في السعودية يوم الأحد المقبل في جدة (الأولى كانت في الرياض 18 شباط الماضي). كان بالإمكان عقد المحادثات في أي دولة أوروبية، في المجر/هنغاريا مثلاً باعتبارها تفترق عن الأوروبيين فيما يخص الموقف من روسيا ومن مسار إنهاء الحرب الأوكرانية الذي يميل بشكل عام باتجاه روسيا، وباعتبار أن القضية أوروبية بحتة، فلماذا اللقاء في عاصمة عربية؟
ترامب وصف مكالمته الهاتفية مع بوتين بأنها جيدة وبناءة للغاية فيما علق ديميتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي بقوله وفق مثل روسي شهير «هناك فقط موسكو وواشنطن في غرفة الطعام» أي في العالم، وفي هذه الغرفة قائمة طعام ومقبلات، كما يضيف ميدفيديف، لكن الطبق الرئيسي كان على الطريقة الأوكرانية. هذا يعني أن قضايا أخرى كانت على الخط الهاتفي ما بين ترامب وبوتين الذي استمر مفتوحاً لساعتين ونصف الساعة تقريباً (أطول مكالمة هاتفية في التاريخ بين رئيسين أميركي وروسي) وهو الثاني بفارق شهرين عن الأول، وكان في 20 كانون الثاني الماضي والذي وصف بدوره بأنه قمة هاتفية.
البيان الأميركي الذي صدر بعد المكالمة تحدث عن أن ترامب وبوتين وسعا نطاق المحادثات باتجاه الشرق الأوسط «كمنطقة للتعاون المحتمل لمنع الصراعات» والبحر الأحمر والبحر الأسود وإيران، ودعم إسرائيل بمواجهة التهديدات، خصوصاً الإيرانية.
بالمقابل، قال بيان للجانب الروسي أن بوتين وترامب بحثا قضايا أخرى غير أوكرانيا، بما في ذلك الوضع في الشرق الأوسط ومنطقة البحر الأحمر .
طبعاً ليست هناك حاجة لبيانات للتأكد من أن الشرق الأوسط كان القضية الرئيسية الثانية على هاتف ترامب- بوتين وعلى مستوى الأهمية نفسه مع أوكرانيا. وهناك فريق واسع من المراقبين يشير إلى تطورات الشهرين الماضيين في الشرق الأوسط ما بين هاتف ترامب – بوتين الأول، وهاتفهما الثاني، وهي تستمر تطورات متسارعة، وآخرها استئناف إسرائيل الحرب على قطاع غزة تحت شعار (إما أن تهاجر أو تموت) بضوء أخضر أميركي على قاعدة خطة ترامب لتهجير أهل القطاع التي قدمها قبل شهر من الآن.. قابلها خطة مصرية/عربية تم إقرارها في قمة القاهرة الطارئة في 4 آذار الجاري، إلا أن الاعتقاد العام هو أن خطة ترامب مستمرة، وعلى أساسها تم استئناف الحرب الإسرائيلية على القطاع.. وهناك أيضاً الضربات الأميركية العنيفة على اليمن (مناطق سيطرة الحوثيين) على قاعدة قطع كل أذرع إيران في المنطقة.
– سلة اقتصادية واحدة
اللافت في مجمل تطورات الشهرين الماضيين، أن المعادلة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط يتم تظهيرها بصورة أوضح، وعلى الأرض، أساسها أن المنطقة سلة استثمارية (اقتصادية) واحدة، من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، وما يجري الآن هو التطبيق على الأرض، بمفاوضات مع الشركاء الجدد (روسيا) وبتطويع نهائي لأطراف في المنطقة (إيران خصوصاً) أي تمهيد ميداني جيوسياسي لفرض خريطة جيو اقتصادية لا يكون فيها إلا أميركا (وروسيا حتى إشعار آخر) ولا يخفى أن أميركا لديها من الأطراف والشركاء في المنطقة ما يكفي ويزيد في سبيل فرض هذه الخريطة، وهي بالعموم انتقلت من الخطوات الواسعة إلى القفزات الواسعة، وفق ما تظهره خطوط النار في المنطقة.
الشرق الأوسط كان حاضراً بصورة رئيسية على خط ترامب-بوتين وفق قاعدتين: خطة ترمب لغزة.. والمنطقة سلة اقتصادية/استثمارية واحدة
الآن.. كل ما سبق وغيره، كان بلا شك على الخط الهاتفي بين ترامب وبوتين، ويبدو أن التوافق والاتفاق بينهما كبير. وعلى الأكيد سيكون هناك المزيد من التوافق المعلن الذي سيظهر في المفاوضات الأميركية- الروسية يوم الأحد الماضي.
القمة المباشرة.. متى؟
بقي أن نشير- لمن يسأل عن موعد القمة المباشرة بين ترامب وبوتين، وعما إذا كان يتم الاستعاضة عنها بقمم هاتفية مطولة- إلى أن القمة قد لا تعقد في المدى المنظور، أو أن لا حاجة لها حالياً في ظل أنه يمكن الاتفاق هاتفياً وعرض ومناقشة جميع القضايا. قد نشهد سلسلة جولات تفاوض بين الجانبين وصولاً إلى عقد هذه القمة، لكن هذه القمة لن تعقد إلا إذا تم التوصل إلى اتفاقات حيال جميع القضايا، خصوصاً الشرق الأوسط، بحيث تكون مخصصة لما يمكن أن نسميه «الإعلان العالمي الكبير».. إلا إذا فاجئتنا حركة التاريخ مجدداً بتطورات خارجة عن سياق كل التوقعات والتنبؤات.