الحرية- جواد ديوب:
ثمة ما نتركه خلفنا، غير مكتمل، ليصبح ماضياً نحنُّ إليه، ونقع في دوامة البحث عنه في أيامنا التي تركَتْنا كِســراتٍ تشتاق إلى بعضها.
نتعامل مع الأشخاص والأشياء باعتبارها، وبكل بساطة، ذاهبة لتصبح ذكريات، فالاحتفاظ بالكمّ الكبير من التفاصيل يسحقنا لدرجة أن ما من دواء للتخفيف من ثقلها إلا النسيان..النسيان القصديُّ الدوريُّ المستمر.
لكنّ هناك شيئاً اسمه النسيان القسري، فعندما تصبح صورك وثيابك وكتبك وأسرارك في مهب اللصوص سارقي الذكريات..عندما تُبتَر ذاكرتك، يصبح ترميمها صعباً جداً، فتجبر نفسك على النسيان كي لا تصاب بالجنون، وتحاول أن تجفّف ورود الحنين لتعلّقها يابسةً -مع حبّات البامياء والقرع والباذنجان- على شبابيك الماضي.
ولأن الكثير من تلك التفاصيل تمّت تنحيته عمداً، فإننا لن نستطيع محاكمته بمنطق تلك المرحلة، فالنسيان يفتح لنا عالماً جديداً يحلّ فيه المتخيّلُ مكانَ الواقعي، وهكذا نصنع حياتنا مرة أخرى كما نشتهي، بعيداً عن عنكبوت المصادفات الذي غزل شبكةَ أعمارنا, هكذا ندرك فجأة أننا نصوغ ماضينا بلغة الرغبات المدفونة، ونعجنها بماء الأحلام والتخيلات، لنحملها خفيفةً إلى بحر الحاضر كي تعوم، فلولا إمكانية أن نحلُمَ لمُتْنا من فرط واقعيتنا!
وجوهٌ مزدحمة!
في الحياة ثمة أشخاص عابرون، يمرون بك، وتمر بهم، من دون أن يتركوا أي انطباع في وجدانك، لكن هل هم حقاً عابرون في حياة أناس آخرين؟ فمن نعدهم ساذجين، أو عاديين، أو متشابهين كنسخ مكرورة، أو هامشيين في بيئةٍ أكثر هامشية منهم، قد يكونون حضناً لمن لم يعرف يوماً كيف يقول ما في قلبه، وما يحلم به وهو غارقٌ في زحمة اللاشيء الذي يعيش فيه.
وفي الحياة أشخاص جميلون ومضيئون في غيابهم أكثر مما هم رائعون في حضورهم، بل حاضرون في غيابهم، في ذكراهم، أكثر مما هم متجسّدون في عيشهم الواقعي، ربما لأنهم ينتمون إلى فئة الناس الذين يضعك غيابُهم أمام سؤال: لماذا يلحّون في التوارد على ذاكرتك، لماذا تشتاقهم كأنك أدمنت عليهم كالملح والسكّر؟
وهنالك وجوهٌ كالحة، متشققة من قلّة الابتسام، بينما تثير فيك وجوهٌ أخرى شهيةً على الحياة، تجعلك تقبل على اللحظات نهشاً وعضّاً بفجعِ سنين من الحرمان.
وبينما تهرب كأرنبٍ مذعور من أمام وجوهٍ لها أنفٌ كمنقار الصقر؛ وتحرمك عيونٌ حذرة متوجسة شكاكة من أن تكون على طبيعتك، تحضنك وجوهٌ طالعةٌ من رائحة القهوة ومتاهاتٍ يشكّلُها البنُّ في قعر الفنجان، تقرأ فيها طالعَكَ الخفيَّ، غير مصدّقٍ أنه يمكن لقدرٍ ما أن يجعلك، بضربة حظّ موفقة، ما أنت عليه.
ومن متاهة القراءة والكتابة تنتشلك عينان شاردتان عاشقتان، فيهما نعاسٌ خفيفٌ وأطياف أحلام مؤجّلة، عينان لهما حضورٌ مُسْكرٌ كحبَّتي مخدّر، تطوفان بك، وتوصلانك، وأنت تبتسم، إلى حافة الهاوية.
وهناك أيضاً وجوهٌ تحبُّها وتشتهيها لكنك تبعدها متقصّداً، فقربُها منك يذكّرك بمن كنته في زمنٍ ماضٍ لا ترغب بعودته، وجوهٌ عيونها دافئة حنونة، تغمض جفونها على فيضِ حزنٍ مرهِقٍ لا يتدفق.
خصمان أزليان!
ويبقى في الحياة أنت؛ روحٌ لا تعرف السكينة، عقلٌ يتأرجح بين قلق الزوال وطمأنينة الخلود، بين رضىً هادئ وشكٍّ عاصف، بين القدرة على الإحاطة بكينونة الوجود، وهشاشة التكوين البيولوجي الماديّ القابل للعطب والتهتّك كخرقة بالية.
هناك أنت مقابل الزمن، خصمان لدودان، لكنّ كليهما يسيران بعكس اتجاه الخلود، فتسارُعُ ساعة الكون العظيمة يوصلنا إلى العدم، لنخسر متعةَ السفر في الأبدية، وتَخسَرُنا الأبديةُ أيضاً، فهل يبقى معنىً لأبديةٍ من دوننا؟!
وللمفارقات محاسنها، فكأنّ إصابةَ الإنسان بفقدان الذاكرة (الزهايمر) هو نعمة تجعله لا يعاني قسوة كونه زائلاً.. لكن ما هو هيّنٌ للشخص المصاب بغياب الذاكرة؛ هو كارثةٌ لمن هم حوله، لأنهم يدركون بالضبط معنى الموت مجسداً، أو كأنهم يشاهدون حالةً يمكن أن أسميها «العماءَ الكوني»، حيث لا يعود للحياة الواقعية المادية أي وجود، بل تتحول إلى ذكرى حياة، إلى «ماكيتِ» واقعٍ، إلى أطيافٍ وأرواح هائمة في فضاء اللا معنى، فضاء من دون وزن ولا قيمة، سوى أنه يجعل المصابَ يحنُّ إلى شيءٍ غامض، غامضٍ لدرجة مرعبة، هو حياته التي عاشها بسرعة رفّة جناح بعوضة.