د. عبد القادر المنلا:
على مائدة إفطار وزير الثقافة، يحضر الشعر كطبق رئيسي، كوجبة فكرية دسمة وليس مجرد فاتح شهية أو مقبلات أدبية تزين المائدة الرمضانية، فالشعر غني بالبروتين الروحي وهو أحد أهم الفيتامينات النفسية التي لا بديل عنها للمحافظة على التوازن الذهني.
وحسناً فعل وزير الثقافة حين افتتح عهده بأبيات من شعره لخّص من خلالها معاناة السوريين في الأعوام السابقة وكثّف تشوقهم ونهمهم لتذوق طعم الكرامة التي كانت مادة مفقودة في أسواق الأسد المخلوع، كما أعلن بشكل غير مباشر عن إعلاء شأن الشعر في ميدان الثقافة الجديدة بعد أن تراجعت مكانته وكادت أن تتلاشى..
وبعد عدة أشهر على وجوده في رأس الهرم الثقافي، مازلنا ننتظر من الوزير الشاب إغناء تلك المائدة بالأطباق الرئيسة الأخرى وأهمها المسرح والسينما والموسيقا، فثمة في سوريا اليوم معاهد عليا لهذه الفنون يمكن أن تشكل رأس حربة في معركة الوعي التي يجب فتح جبهاتها بالتوازي مع المعركة ضد الفقر التي سيخوضها رئيس الجمهورية في المرحلة الحالية، لأن الأزمة الحقيقية والعميقة التي تتسيّد المشهد السوري اليوم يمكن تلخيصها بأزمة الوعي، وهذه لا يمكن خوض معركتها إلّا بالسلاح الثقافي الثقيل والذي تمتلك وزارة الثقافة كامل معداته وذخائره وأدواته..
أثناء الإعلان عن التشكيلة الوزارية في حكومة الرئيس أحمد الشرع، كنا ننتظر بتوتر وقلق اسم الوزير الذي ستوكل إليه مهمة قيادة هذا القطاع الحساس، فاختيار المسؤول عن الثقافة سيكون مؤشراً شديد الوضوح على توجه الدولة، حيث إن ضبط إيقاع أي بلد يبدأ من تحديد بوصلته الثقافية.
وعندما صعد محمد حسين إلى منصة القسم، تعرف السوريون إلى شخصية يعرفونها جيداً من خلال برنامج “تأملات” الذي كان يبث على قناة الجزيرة، ربما لم ينتبه الكثيرون إلى اسم معده ومقدمه حينها، ولكن من تابع ذلك البرنامج لن ينسى صورة معده ومقدمه بحضوره الساحر، الممتلئ، الواثق، المجدد في طريقة الأداء بحيث يجبرك على أن تتسمر أمام الشاشة لمتابعة البرنامج من دون أن يطرف لك رمش وتود لو امتد لوقت أطول.
كان البرنامج من النوافذ القليلة جداً التي تعيدك إلى روح الشعر العمودي الذي ساهمت نماذج منه في رفع ذائقة التلقّي والارتقاء بها، كما ساهم الكثير من نماذجه الرديئة – وهي الأكثر كمّاً في تاريخ الأدب العربي- في تشويه الفكر والعقل عبر نشر ثقافة النظم والحشو والصناعة والتكرار وإعادة تدوير المعاني وتقليد الأقدمين وتكريس المتوازيات وثقافة الخطابة والمباشرة والقوافي التي جعلت من الشعر العمودي في كثير من الأحيان عملية نظم تهتم بالشكل على حساب المعنى، ناهيك بثقافة المديح والهجاء وغيرها من القيم المستهلكة التي شاركت بصناعة عقل عربي أحادي الاتجاه محدود العمق، يعيد تدوير المعاني والصياغات ويطرب لنجاح الوزن والقافية وسلامة اللغة وجزالتها على حساب الشعر نفسه، أي على حساب جرعة الإحساس وبراعة التعبير عنه والتجديد فيه من دون إظهار الصناعة وذلك هو الشعر في جوهره وحقيقته..
قليلون هم الشعراء في التراث العربي الذين استطاعوا أن يطرحوا عمقاً فلسفياً وقلقاً وجودياً من خلال البناء العمودي، ومن دون اللجوء إلى الصناعة المكشوفة، لأن طبيعة البناء العمودي وارتهانه للوزن والقافية كفيل بإعاقة التدفق الفطري للإحساس وتكريس الجزء الأكبر من المهارات لمراقبة التوافق مع شروط العمود للحصول على قصيدة، ولهذا فإن أهمية هذا النوع الشعري لا تنبع من توافقاته مع المسطرة المحددة والمقاييس الشكلية المعتمدة، بل يتوقف على قدرات الشاعر الاستثنائية ومدى موهبته ومخزونه الفكري ونضج أدواته ومستوى الشغف لديه..
وإذا ما توقفنا عند إنتاجات محمد صالح الشعرية أو حتى نماذجه التي يختارها في برنامجه المذكور، سنجد أننا أمام شاعر يعي تماماً تلك الإشكالية، ويعرف بدقة أفخاخ النوع الأدبي الذي يتعامل معه، كما يعي الفرق العميق بين النظم والشعر، وربما نستطيع إدراجه بلا تردد كأحد رواد التجديد في الشعر العمودي ليس من حيث الشكل الذي لا يمكن التجديد فيه، بل من حيث تداول المعاني شعرياً ومعالجة الموضوعات الحديثة عبر القالب القديم، أي بإخضاع القالب لمتطلبات الفكرة الشعرية المطروحة، لا بإخضاع الفكرة لمتطلبات القالب، وهو ما نلمسه في قصائده بشكل عام..
ليس الهدف من ذلك كله مديح الوزير كشاعر، ولا الثناء على اختيار الرئيس لشاعر مجدد ليكون وزيراً للثقافة، بل لمطالبة وزير الثقافة بتحمل مسؤولياته كاملة وعدم الانحياز للشعر على حساب الأنواع الثقافية الأخرى وعلى رأسها المسرح والسينما والموسيقا والزج بها كسلاح نوعي في معركة الوعي التي لا بدّ من التشديد على مدى أهميتها.
من حيث المبدأ يمكننا الاطمئنان على حالة الثقافة التي تشرف عليها اليوم عقلية لا تعتمد الحشو والتكرار وتعي خطورة المعاني مسبقة الصنع وخطورة الصياغات المعاد تدويرها التي تشكل خطراً كبيراً على بنية الثقافة فيما لو تمّ اعتمادها في هذه المرحلة الحساسة من عمر سوريا الجديدة، ولكننا نراهن على فكر الوزير أكثر من شعره وننتظر تفعيل دور المسرح والسينما والموسيقا وبالسرعة القصوى..
ثمة معاهد عليا للسينما والمسرح والموسيقا في سوريا، ثمة مؤسسة عامة للسينما ومديرية عامة للمسارح والموسيقا، وهي من أكثر المؤسسات التي تعرضت للانتهاك والإنهاك والابتزاز والإذلال في عهد الوارث الهارب الذي استغلها أبشع استغلال ليحولها إلى “براغي” في ماكينته الإعلامية وسلّمها لمجموعة من الانتهازيين المتوافقين مع روايته أو لبعض المجبورين الذين لم يكونوا قادرين على الخروج عن الطاعة، وآن الأوان لإعادة النظر في تلك المؤسسات، لمراجعة شاملة لواقعها ودورها وتعقيمها من التلوث الذي علق بها وتوظيفها كفاعل أساسي في الواقع السوري الجديد..
إذا عدنا إلى المفهوم الأصلي للثقافة سنجده على المستوى العلمي للظاهرة يشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع بكل عاداته وتقاليده وقيمه ولغته وآدابه وفنونه، ولذلك يعول على وزير الثقافة اليوم ما هو أكثر بكثير من مجرد الاهتمام بالظواهر الأدبية والفنية في تمظهراتها الخارجية، وبما أننا في سباق مع الحدث، لن نجد حصاناً أسرع من الثقافة ليوصلنا إلى الهدف، وبغير ذلك ستتحول الثقافة إلى حصان طروادة، حيث يختبئ الانتهازيون داخله في انتظار اللحظة المناسبة للانقلاب على الواقع الجديد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً..
ثمة أطباق فارغة على مائدة وزير الثقافة بانتظار ملئها بالأصناف التي لا غنى عنها للبدء باستكمال المشروع الثقافي، ليس من أجل الرفاهية الثقافية بل مساهمة في ضرورات المرحلة وتفعيلاً لدور الثقافة الذي يبدو اليوم من أساسيات إعادة إعمار الإنسان وبناء القيم في سوريا الجديدة..