المنظومة الوطنية للإعلام… نموذج إستراتيجي لصناعة الثقة المجتمعية

مدة القراءة 7 دقيقة/دقائق

الحرية – حسين الإبراهيم:

  • ماذا يعني أن يكون للإعلام منظومة وطنية متماسكة تتجاوز حدود الخدمة إلى مشروع إستراتيجي؟
  • كيف يمكن للإعلام أن يتحول من ناقل للخبر إلى قوة تأسيسية تصنع الهوية وتدعم التنمية؟
  • ما هو الدور الحقيقي للإعلام حين يُبنى كمنظومة تكاملية؟
  • أين تكمن قوة الإعلام إذا ما أُعيد تعريفه كرسالة وطنية جامعة لا مجرد سلعة استهلاكية؟

لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار أو تقديم الخدمات الترفيهية، بل أصبح مكوّنًا إستراتيجيًا يسهم في صياغة الهوية الوطنية، وبناء الثقة المجتمعية، ودعم التنمية المستدامة. إن أي بلد يسعى إلى النهوض يحتاج إلى منظومة إعلامية وطنية متماسكة، تشكّل إطارًا عامًا للتنسيق والتكامل بين مختلف الوسائل الإعلامية، بحيث تتحول الصحافة والإذاعة والتلفزيون والمنصات الرقمية إلى شبكة واحدة تخدم المجتمع، وتدافع عن قيمه، وتفتح له آفاق المعرفة والابتكار.

الإعلام الذي يُختزل في كونه مجرد خدمة، يفقد قدرته على التأثير، بينما الإعلام الذي يُبنى كمنظومة وطنية يصبح قوة تأسيسية قادرة على قيادة التغيير، وصياغة المستقبل.

الإعلام كركيزة اجتماعية 

أصبح الإعلام أداة لتشكيل الهوية الوطنية وحماية التنوع الثقافي. فهو المرآة التي تعكس صورة المجتمع، وفي الوقت نفسه المنصة التي تصوغ رؤيته المستقبلية.

حين يُبنى الإعلام الوطني على أسس واضحة، يتحول إلى قوة تربط الأفراد بقيمهم المشتركة، وتمنحهم شعورًا بالانتماء، وتدافع عن لغتهم وثقافتهم في مواجهة العولمة والتشظي الرقمي.

يرسّخ الإعلام القيم المشتركة ويعزز الانتماء، من خلال سرد قصص المجتمع وتاريخه، ويضمن أن لا تُهمَّش المكونات الثقافية الصغيرة، بل تُعرض كجزء من النسيج الوطني، ويفتح فضاءات للنقاش، ويمنح المواطنين فرصة التعبير عن آرائهم بشكل مسؤول، ويسهم في رفع وعي الأجيال الجديدة، ويغرس قيم النقد والتحليل بدلًا من الاستهلاك السلبي للمحتوى.

في فرنسا، لعب الإعلام دورًا محوريًا في حماية اللغة الفرنسية من هيمنة اللغة الإنجليزية عبر سياسات إعلامية صارمة. وفي اليابان، يعكس الإعلام الثقافة المحلية ويعزز قيم الانضباط والعمل الجماعي، ما أسهم في ترسيخ الهوية الوطنية.

يمثل الإعلام أيضاً أداة اقتصادية وتنموية قادرة على تحريك عجلة الاستثمار، دعم المشاريع الوطنية، وتوسيع الأسواق. حين يُدار الإعلام برؤية إستراتيجية، يتحول إلى قوة إنتاجية.

الإعلام كمنظومة تكاملية

لا يمكن للإعلام أن يعمل كجزر معزولة، بل يحتاج إلى إطار وطني ينسّق بين مختلف وسائله ويضمن تكاملها. الصحف، القنوات التلفزيونية، الإذاعات، المنصات الرقمية، كلها عناصر في شبكة واحدة، وإذا لم تُدار برؤية موحدة فإنها تتحول إلى أصوات متنافرة تفقد تأثيرها. المنظومة الوطنية للإعلام هي التي تضع قواعد الانسجام بين الرسالة والأهداف، وتحدد الأولويات، وتمنح كل وسيلة دورها ضمن مشروع وطني جامع.

التكامل لا يعني التماثل، بل يعني أن تتوزع الأدوار بشكل يحقق التوازن: الإعلام التقليدي يحافظ على المصداقية والعمق، الإعلام الرقمي يضيف السرعة والتفاعل، والإعلام المجتمعي يفتح المجال للمشاركة الشعبية. هذا التنسيق يحوّل الإعلام إلى قوة متماسكة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ويمنع التشتت الذي يضعف الثقة ويُفقد المجتمع بوصلته.

التحدي بين الخدمة والرسالة

أخطر ما يواجه الإعلام اليوم هو اختزاله في كونه مجرد خدمة، تُقدَّم للمستهلك مثل أي سلعة أخرى. هذا التصور يُفرغ الإعلام من جوهره، ويحوّله إلى صناعة ترفيهية أو تجارية بحتة، بينما وظيفته الأصلية أعمق بكثير: أن يكون حاملًا للرسالة، وصانعًا للوعي، ومحرّكًا للنقاش العام.

الإعلام الذي يكتفي بالخدمة يظل أسيرًا لمعادلة العرض والطلب، يلهث وراء نسب المشاهدة والإعلانات، ويبتعد عن دوره في المساءلة، أو تثقيف المجتمع، أو حماية القيم المشتركة. أما الإعلام الذي يتبنى الرسالة، فإنه يضع المصلحة الوطنية في المقدمة، ويوازن بين متطلبات السوق وواجباته الأخلاقية، ليصبح قوة فاعلة في التنمية والتغيير.

الفرق بين الخدمة والرسالة هو الفرق بين إعلام يستهلك المجتمع، وإعلام يبني المجتمع. الأول يقدّم محتوى سريعًا يرضي اللحظة، والثاني يزرع وعيًا طويل الأمد يهيّئ الأجيال لمواجهة المستقبل. لذلك، فإن أي منظومة وطنية للإعلام لا بدّ أن تحسم هذا التحدي، وتعيد تعريف الإعلام باعتباره مشروعًا وطنيًا يحمل رسالة، لا مجرد خدمة عابرة.

خطوات عملية لتأسيس المنظومة الوطنية للإعلام

في كتابي “المشهد الرقمي في الإعلام السوري” أفردت محوراً للحديث عن المنظومة الوطنية للإعلام كنموذج مستقبلي لإعلام يكون بمثابة مكون أساسي من مكونات المجتمع.

ليس بناء منظومة وطنية للإعلام شعارًا نظريًا، بل مشروع يحتاج إلى خطوات عملية واضحة تضمن استمراريته وفاعليته. هذه الخطوات تشكّل الأساس الذي يحوّل الإعلام من قطاع متشظٍ إلى قوة إستراتيجية تخدم المجتمع والدولة

من أهم تلك الخطوات إقرار قوانين تضمن استقلالية الإعلام عن السلطة التنفيذية والمال الخاص، وتضع معايير واضحة للشفافية والمساءلة، بحيث يصبح الإعلام مؤسسة وطنية لا أداة نفوذ، وإطلاق برامج تدريبية متخصصة في الصحافة الرقمية، التحقيقات الاستقصائية، وأخلاقيات المهنة، لضمان أن الإعلاميين يمتلكون أدوات العصر ويستطيعون مواجهة التحديات الجديدة، وإنشاء صناديق وطنية لدعم الإعلام، تعتمد على مصادر تمويل متنوعة (اشتراكات، ضرائب موجهة، دعم حكومي مشروط بالشفافية)، لتجنب التبعية الاقتصادية التي تضعف استقلالية الرسالة.

وثمة خطوات أخرى لا تقلّ أهمية مثل ربط الإعلام التقليدي بالرقمي ضمن إطار واحد، بحيث تتحول الصحف والقنوات إلى منصات متعددة الوسائط، وتُستثمر التكنولوجيا في تعزيز التفاعل والمشاركة الشعبية، وتأسيس هيئات أو مجالس وطنية للإعلام، مهمتها وضع الإستراتيجيات العامة، وضمان التنسيق بين مختلف الوسائل، ومتابعة الأداء وفق مؤشرات واضحة، وفتح المجال أمام الإعلام المجتمعي والمبادرات الشبابية، ليكون المواطن شريكًا في صناعة الرسالة الإعلامية، لا مجرد متلقٍ سلبي.

مشروع وطني إستراتيجي

الإعلام الذي يُبنى على أساس منظومة وطنية متماسكة لا يكتفي بنقل الأخبار أو تقديم الخدمات، بل يتحول إلى قوة تأسيسية تعيد صياغة المجتمع وتدعم التنمية وتحصّن الهوية. إن التحديات التي تواجه الدول اليوم ـ من العولمة الرقمية إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية ـ لا يمكن مواجهتها بإعلام متشظٍ أو تابع، بل بإعلام يملك رؤية ورسالة، ويعمل ضمن إطار وطني جامع يوازن بين الحرية والمسؤولية، وبين السوق والمصلحة العامة.

المنظومة الوطنية للإعلام ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لأي بلد يسعى إلى النهوض. فهي التي تمنح الإعلام القدرة على أن يكون شريكًا في التنمية، وحارسًا للقيم، وصوتًا للمجتمع في مواجهة التحديات.

الإعلام الذي يظل مجرد خدمة سيبقى صدىً لأصوات الآخرين، أما الإعلام الذي يُبنى كمنظومة وطنية متماسكة فسيصبح قوة قادرة على هندسة المستقبل وصناعة الغد.
Leave a Comment
آخر الأخبار